السبت. نوفمبر 16th, 2024

يتهم بعضُ المثقفين زملاءهم من المثقفين الفلسطينيين من الضفّة الغربية والقدس والأراضي المحتلة عام 1948؛ بالافتقاد للحساسية الأخلاقية تجاه إخوانهم في قطاع غزّة، لكونهم لا يتبنّون موقفا يُدين عملية السابع من أكتوبر أو نمط المقاومة الفلسطينية الذي ساد في قطاع غزّة في السنوات الأخيرة وصولا إلى “طوفان الأقصى”، وفي سياق الاتهام نفسه يُرمى هؤلاء المثقفون في أخلاقهم بكونهم يتبنّون موقفا لا ثمن له، ليس فقط من جهة أنّه لا يقع عليهم وعلى أهاليهم ما يقع على الغزيين، بل هم يهربون “بحسب الاتهام” من أيّ مساهمة نضالية تنسجم مع مقولاتهم من شأنها تدفعيهم الثمن.

ويُمَدُّ هذا النقد بخلط عجيب، للقول إنّ هؤلاء لا يرون مقاومة ناجعة سوى مقاومة حماس، ثمّ تأخذ الغرائبية مداها باتهام مؤيدي المقاومة أو رافضي إدانتها؛ بأنّهم منفصلون عن واقع مجتمعاتهم لأنّ مجتمعات الضفّة الغربية والقدس والأراضي المحتلة عام 1948 بذكائها الفطري لم تستجب لحالة المقاومة المسلحة لإدراكها خطورة هذا الخيار!

هذه جملة اتهامات مُلصقة ببعضها عنوة في سياق واحد مصطنع، بما ينمّ عن أنّ هؤلاء الاتهاميين لا يراجعون أفكارهم أو لا يفكّرون بها جيدا لتكون أفكارا فعلا، ولا يحاولون التفكير فيما يُردّ به عليهم.

فبعض ما ساقه بعضهم في هذه الخلاصة الاتهامية سبقت مناقشته، ولكنهم هذه المرّة أضافوا لمواقف مخالفيهم لوازم لا تلزمهم، وجعلوا المواقف متولّدة من بعضها بنحو عضويّ بما حمّل الآخرين مقولات لا يقولون بها ومواقف لا يتبنّونها، وهذا أمر معيب لو كان مقصودا؛ لأنّه كذب على المخالف بمحض الاستنتاج الاعتباطي وغير المنطقي!

إذ ما العلاقة الضرورية بين رفض إدانة حماس والمقاومة، أقلّه في ظلّ الحرب القائمة، وانعدام الحساسية الأخلاقية تجاه العذابات الهائلة للفلسطينيين في غزّة؟!

هل الذي يرفض إدانة مقاومة شعبه ولكنه في الوقت نفسه لا يكفّ عن تبيين معالم الإبادة والقتل والنزوح المفتوح والدمار والملاحقة بالنار والكشف عن معانيها السياسية ودوافعها الأيديولوجية لدى الإسرائيلي، ويجمع في الوقت نفسه انحيازه لمن يقف على قدميه يواجه هذه الإبادة إلى جانب الاستحضار الدائم للأثمان الفادحة التي يدفعها عموم الفلسطينيين في غزّة؛ يكون منعدم الحساسية الأخلاقية؟!

يمكن القول إنّ رافضي إدانة المقاومة وحماس، هم الأكثر حساسية أخلاقية تجاه آلام الغزيين التي لا تحتملها الجبال، لأنّ انحيازهم، والحالة هذه، للغزيين جميعا، فالإبادة في غزّة لا تقع على غزيين دون غيرهم، وهي وإن طالت الجميع ولاحقت الجميع، فإنّها أول ما طالت بالإبادة والمحو الكامل العائلات التي تنتسب لحماس أو التي فيها عناصر من حماس، فتحويل الموقف النقدي تجاه مقاومة حماس، إلى موقف إدانة لحوح لا يحسن بعض المثقفين سواه، يعني تجريد الحركة بما هي جزء من الشعب الفلسطيني من التعاطف، وإنكار معاناتها.

وقد قرأت لبعضهم قوله: “ليست حماس التي تدفع الثمن بل الشعب الفلسطيني في غزّة الذي يدفع الثمن”، وهذه المقولة لا تكتفي بعزل حماس عن الشعب الفلسطيني، بل تنكر ما دفعته الحركة من ثمن بوصفها تنظيما وبوصفها مجموعة إنسانية تتعرّض إلى الإبادة، بل هي المقصودة في هذه الحرب أصالة بالإبادة، وإن كانت عقيدة الإبادة الإسرائيلية تقصد بنحو تأسيسي الفلسطينيين جميعا، وتطال بالفعل الفلسطينيين في غزّة جميعا.

قلنا كثيرا إنّ هذا النمط من النقد يبرّئ الاحتلال من جريمة الإبادة، لأنّه يجعلها مجرّد ردّ فعل على “مغامرة غير محسوبة من حماس” (بحسب تعبيرات بعضهم)، وقد سبق وناقشنا هذا النمط من النقد في مقالات عديدة سابقة، بما يغني عن تسجيله هنا اختصارا لهذه المقالة، وإن كانت العودة إليه متكررة، ما دام هؤلاء المثقفون لا شغل لهم سوى هذه التبرئة الضمنية للعدوّ بلسان الحال.

يبقى السؤال قائما عن هذه العلاقة التي اصطنعوها بين رفض إدانة حماس والمقاومة وبين انعدام الحساسية الأخلاقية!

فهل الذي يرفض إدانة مقاومة شعبه ولكنه في الوقت نفسه لا يكفّ عن تبيين معالم الإبادة والقتل والنزوح المفتوح والدمار والملاحقة بالنار والكشف عن معانيها السياسية ودوافعها الأيديولوجية لدى الإسرائيلي، ويجمع في الوقت نفسه انحيازه لمن يقف على قدميه يواجه هذه الإبادة إلى جانب الاستحضار الدائم للأثمان الفادحة التي يدفعها عموم الفلسطينيين في غزّة؛ يكون منعدم الحساسية الأخلاقية؟!

أم أنّ عليه أن يُظهِر بلسان الحال قبولا ضمنيّا للإبادة الواقعة على حماس مجتمعا وتنظيما بعزلها عن بقية الفلسطينيين وتحميلها مسؤولية حرب الإبادة تحت عنوان: “تستحق وناسها ما يجري لهم لكونهم من جرّ على شعبهم ذلك” ليكون ذا حساسية أخلاقية؟! فلننظر إذن من هو الأكثر حساسية أخلاقية!

فإن قيل إنّ النقد لهؤلاء لا من جهة رفضهم إدانة حماس، ولكن من جهة تأييدهم لمقاومة حماس، فإنّ هذا التحريف لدواعي النقد يضاعف ما في ذلك الاتهام من العيوب الأخلاقية.

 فالواضح أنّ البعض يولّد اتهامه لغيره بانعدام الحساسية الأخلاقية لمجرد رفض ذلك الغير إدانة حماس، ورفض إدانتها في ظلّ الحرب قد يعني التركيز على جرائم العدوّ وعلى تقصير أو تخاذل أو تواطؤ الأطراف الأخرى فلسطينية أو عربية أو دولية، مع بيان بسالة من يقف على أقدامه يواجه حرب الإبادة، والذي هو بدوره يدفع الثمن إلى جانب بقية الفلسطينيين في غزّة.

إنّ هذا التركيز على جريمة العدوّ وتخاذل وتواطؤ البقية وبسالة المقاوم في الوقت نفسه، هو مسلك أخلاقيّ، وهو لا يعني كونه يتناول الحدث من خلال هذه العناصر الثلاثة مجتمعة؛ خلوّه من أيّ مراجعة نقدية لعموم الأداء المقاوم، أو حتى لعملية السابع من أكتوبر، ولكنّ هذه المراجعة إمّا أنّها لا تأخذ صيغا اتهامية، أو لا ترى فائدة من استظهارها أو التركيز عليها أثناء الحرب الجارية، فالمتهم بخطأ حسابات “طوفان الأقصى” هو بدوره يدفع ثمن عمليته التي نفّذها ويواجه خطرا وجوديّا من كل ناحية، علاوة على كون عملية السابع من أكتوبر لها سياق أوسع تُنظر فيه بما لا يقتصر على جانب الحسابات التي وقفت خلفها، فهؤلاء الاتهاميون لا يلاحظون اختلاف زوايا النظر النقدية، ولا يستوعبون أنّ الانحياز للمقاومة ساعة الحرب لا يعني خلوّ هذا الموقف المنحاز من أيّ رؤية نقدية!

لكن وبالرغم من ذلك، من أين لهؤلاء الاتهاميين أنّ تأييد مقاومة حماس أو حتى السابع من أكتوبر، يعني انعدام الحساسية الأخلاقية؟!

إن كان الأمر كذلك فلا ينبغي تأييد أيّ عمل مقاوم حتى لو كان من النمط الذي يقترحه الاتهاميون (مقاومة شعبية سلمية)، لأنّه بالضرورة يستدعي ردّا من العدوّ لا يكافئ مستوى الفعل المقاوم نفسه، لأنّ إرادة العدوّ دائما جعل ثمن المقاومة على الشعب الفلسطيني أكبر من ثمن وجود الاحتلال واستمراره، ومن ثمّ، وبالمنطق المغلوط نفسه؛ فإنّ من يستدعي نموذج الانتفاضة الأولى لا يتسم بالحساسية الأخلاقية الكافية تجاه الآلاف الذين دفعوا أثمانا فيها!

فكيف وإن كان هو أصلا خارج مجال دفع الثمن، كأن يكون ممن يعيش خارج الأرض المحتلة؟!

يزعم هؤلاء الاتهاميون أنّ من يؤيّد مقاومة حماس لا يرى مقاومة ممكنة أخرى غيرها، وهم في الغالب أصلا يستنتجون تأييد مخالفيهم لمقاومة حماس لمجرّد رفضهم إدانة حماس وتحميلها مسؤولية حرب الإبادة الإسرائيلية.

لكن وفي كلّ الأحوال، من أين لهم أنّ تأييد حماس في مقاومتها يعني رفض أيّ خيار نضاليّ آخر؟!

 فحماس نفسها ومعها جمهورها كانت جزءا أصيلا من الانتفاضة الأولى، ومن المظاهرات الشعبية في بدايات الانتفاضة الثانية ومن مسيرات العودة في غزّة، وهي صريحة ومباشرة في الدعوة الدائمة لهبّات شعبية، هذا والشكل شبه النظامي في العمل المقاوم لم يكن من اختراع حماس بل هو قادم ومستدعى من تجربة فصائل الثورة الفلسطينية ومنظمة التحرير في الخارج، وبروزه داخل الأرض المحتلة كان مع تشكيلات حركة فتح، فأسلوب حماس المفضل عادة هو الخلايا الصغيرة المنفصلة مقابل الأسلوب المليشياوي العلني لغيرها، فأمّا الواقع في قطاع غزّة فقد نجم عن جملة تحوّلات سياسية بدأت مع أوسلو ثمّ تبلورت مع الانتفاضة الثانية التي شارك فيها الجميع لا حماس وحدها.

لكن ليست هذه المغالطة هي القضية، ولكن القضية مركّبة من جانبين، يُظهران تناقض هؤلاء الاتهاميين وأنّهم لا يفكّرون فيما يقولون، وهو أمر سبق لنا بيانه من قبل، إذ يقولون إنّ عدم مشاركة الضفة الغربية والقدس والأراضي المحتلة عام 1948 في المقاومة المسلحة يعني أنّ هذه المجتمعات غير مقتنعة بها وتدرك خطورتها، وهم يكتفون بهذا الكلاشيه للزعم بأنّ هذه المجتمعات غير مؤيدة للمقاومة المسلحة، دون أن يقدّموا أيّ تحليل ماديّ معمق لظروف هذه المجتمعات وتاريخها المقاوم والشروط الموضوعية اللازمة لأيّ خيار كفاحي، والطريف أنّهم في مقابل هذا الكلاشيه يتهمون مخالفيهم من رافضي إدانة حماس بالانفصال عن مجتمعاتهم!

السؤال المهمّ الذي ينبغي طرحه على هؤلاء، وبما أنّهم يلحّون دائما على نموذج الانتفاضة الأولى خيارا كفاحيا، هو لماذا لا يتكرر هذا النموذج في الضفة الغربية التي لا تحكمها حماس ولا تملك فرض خياراتها عليها وتتوفّر فيها شروط أفضل لانتهاج الانتفاضة الشعبية؟!

فبحسب نظرية هؤلاء الاتهاميين بخصوص المقاومة المسلحة، فإنّ عدم انتهاج خيار في مجتمع ما يعني أنّ هذا المجتمع بذكائه الفطري يرفض هذا الخيار ويدرك خطورته!

وبما أنّ الضفّة الغربية لا يتكرر فيها نموذج الانتفاضة الأولى فهذا يعني بحسب نظريتهم أنّ الضفة الغربية ترفض النموذج الذي يقترحونه وتدرك خطورته! ويعني أنّهم هم المنفصلون عن الواقع ما داموا يقترحون نموذجا لا استجابة له بين جماهير مجتمعات الفلسطينيين!

الذي يتضح من هذا الخلط الاتهامي غير المتماسك لدى هؤلاء هو رفضهم التأسيسي للمقاومة المسلحة وخصومتهم الأيديولوجية لحماس، ويغطون ذلك كلّه بدعوى الحساسية الأخلاقية (وهذا بدوره فعل غير أخلاقي)، وإلا لكانت أطروحتهم النقدية أقلّ تفكّكا مما هي عليه، ولقدّموا مساهمات تحليلية تدرس العوامل المادية والشروط الموضوعية للخيارات الكفاحية

الذي يتضح من هذا الخلط الاتهامي غير المتماسك لدى هؤلاء هو رفضهم التأسيسي للمقاومة المسلحة وخصومتهم الأيديولوجية لحماس، ويغطون ذلك كلّه بدعوى الحساسية الأخلاقية (وهذا بدوره فعل غير أخلاقي)، وإلا لكانت أطروحتهم النقدية أقلّ تفكّكا مما هي عليه، ولقدّموا مساهمات تحليلية تدرس العوامل المادية والشروط الموضوعية للخيارات الكفاحية (وهو ما حاولنا بالعديد من المرات فعله كبحثنا الدائم في الشروط الموضوعية لنموذج الانتفاضة الأولى).

ما ينبغي قوله هو إنّ اقتراحهم لنموذج بهذا الإلحاح ينبغي أن يستدعي منهم نقدا مكثّفا ولحوحا لمن يحول دون ذلك في المجال الذي يحكمه ويسيطر عليه ويتحرك فيه وتتوفر فيه شروط أفضل للفعل الكفاحي الشعبي (وهو الضفة الغربية)، ولكنهم بدلا من ذلك يتجهون بالنقد حصرا لخيار حماس في غزّة، وكأنّ خيار حماس في غزّة هو ما عطّل الانتفاضة في الضفة، أو كأنّ تأييد مثقف من الضفة لخيار حماس في غزّة هو ما يعطّل هذه الانتفاضة في الضفة!

هل يوجد خلط وخطل أسوأ من ذلك؟! لماذا لا يستحقّ منهم الفاعل الفلسطيني الأهمّ في الضفة قدرا من النقد مكافئا لإلحاحهم على نموذج شرطه الموضوعي الأهمّ في إطلاقه أو كبحه هو ذلك الفاعل في الضفة!؟ ألا يدل ذلك على قصور مبدئي في دعواهم النقدية؟! هم لا يكادون يتجهون بالنقد المباشر الصريح لأيّ دور آخر لأيّ جهة في الإقليم (سوى إيران طبعا، وفي فلسطين حماس بالتأكيد) بخصوص المسؤولية تجاه الإبادة الواقعة على الغزّيين!

يبقى أخيرا اتهامهم لزملائهم من بعض مثقفي الضفة والقدس والأراضي المحتلة عام 1948 بالهروب من دفع ثمن المقاومة التي يؤيّدونها. هذا الاتهام لا يستحق الردّ ليس فقط لكونه لمزا، ولكن أيضا لكونه لا ثمن يُدفع من معارضة المقاومة، ولكن هذه المعارضة في أقل الأحوال تضمن لصاحبها الأمن والاستقرار، وفوق ذلك قد تفتح له الأبواب (كالصحف والمجلات والمواقع التي يكتب فيها مثقفونا الاتهاميون والقنوات التي يظهرون عليها، تلك التي تتبنى صراحة السردية الصهيونية وتتموّل من دول تدعم سحق حماس ولو بإبادة أهالي غزة، ولن يوقفهم أحد في مطارات العالم، ولن تمنعهم دولة من دخول أراضيها، وإن كانوا من الضفة فلن يمنعهم الاحتلال من السفر، فكيف إن كان بعضهم يتماهى في شيء من مواقفه مع دعاية الاحتلال؟!)، لكن تأييد المقاومة من داخل الأرض المحتلة معلوم ثمنه، فالأمر لا يستحق الردّ، ولكن دور المثقف ومسؤوليته هو ما يستحق النقاش فعلا بما في ذلك الجانب الأخلاقي من حيث التعقيب على حدث فيه كل هذه الآلام الهائلة.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *