إعداد تشانغ جه: باحثة في معهد آسيا والمحيط الهادئ والاستراتيجية العالمية بالأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية 19-09-2024
تواجه تنمية الصين فرصا إستراتيجية جديدة في ظل التطور السريع للتغيرات الكبيرة التي لم يشهدها العالم منذ قرن من الزمان، والتطور العميق لجولة جديدة من الثورة العلمية والتكنولوجية والتحول الصناعي، والتعديل العميق لتوازن القوى الدولية.
وباعتبارها مركز النمو الاقتصادي العالمي وبؤرة المنافسة بين القوى الكبيرة، فإن اتجاه التنمية الشامل لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ يعكس بشكل كامل خصائص العصر الذي يشهد التغيرات الكبيرة غير المسبوقة منذ قرن.
وفي سياق تشابك الأمن التقليدي وغير التقليدي والمنافسة الإستراتيجية الشاملة بين الولايات المتحدة والصين، انقسمت القوى الرئيسية في المنطقة إلى مجموعات مختلفة، ووازنت الدول المتوسطة والصغيرة بعناية بين الاستقلال الإستراتيجي واختيار أحد الجانبين.
أما الأمر صاحب التأثير الجوهري الطويل المدى فهو أن سلاسل الإنتاج والإمداد خضعت لتعديلات عميقة في المنطقة. وفي مواجهة التغيرات الإقليمية، تتمتع الصين بالشجاعة لتحمل مسؤولياتها وتصر على الحفاظ على النظام الاقليمي العادل والشامل والمتوازن والتعاوني في الممارسة العملية. وعلى وجه الخصوص، أوضح مؤتمر العمل المركزي للشؤون الخارجية المنعقد في ديسمبر 2023 الاتجاه وقدم خطط العمل ومسارات الممارسة لمواصلة تعزيز بناء مجتمع المصير المشترك لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ.
استمرار انقسام القوى الإقليمية وإعادة تشكيلها يفاقم اضطرابات المنطقة
إن استمرار انقسام القوى الرئيسية وإعادة تشكيلها في منطقة آسيا والمحيط الهادئ يواصل تشكيل مشهدها الأمني. ومن بينها، تطور نظام التحالف الأمريكي باتجاه “التوسع” و”التحديث”، وأصبح عاملا مزعجا رئيسيا يفاقم حدة المواجهة بين المعسكرات الإقليمية واضطرابات الوضع الأمني.
وعلى الرغم من استمرار الأزمة الأوكرانية والصراع الفلسطيني الإسرائيلي في السنوات الأخيرة إلا أن الولايات المتحدة لم تخفّض “تركيزها” على منطقة “المحيطين الهندي والهادئ” ولا تزال تعتبر الصين أكبر منافس إستراتيجي لها. وتواصل الولايات المتحدة تعزيز تفوقها العسكري المطلق في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، باتخاذ “الردع المتكامل” كتوجيه إستراتيجي لها. وفي عام 2023، أعطت الولايات المتحدة الأولوية لتعميق التعاون داخل نظام التحالفات، أي تعزيز التحالف الثنائي الأمريكي الياباني والآخر الأمريكي الفلبيني باعتبار اليابان والفلبين “مركزين مزدوجين”.
وعلى هذا الأساس، تعزز التعاون العسكري المصّغر المتعدد الأطراف بين الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية، وبين الولايات المتحدة واليابان والفلبين وبين الولايات المتحدة وأستراليا والفلبين، الذي يشمل تعزيز تبادل المعلومات، وتحسين التدريبات المشتركة، وتقوية قابلية التشغيل البيني، ودفع التفاوض، والتوقيع على “اتفاقية الوصول المتبادل” و”اتفاقية القوات الزائرة” بين اليابان والفلبين وبين اليابان وأستراليا وبين أستراليا والفلبين وغيرها من الممارسات، بهدف تحسين البناء المتكامل والتطبيق العملي للعمليات العسكرية للتحالفات العسكرية الأمريكية.
لقد أصبح كسر القيود الإقليمية وتحقيق التوافق الإستراتيجي بين نظام تحالف آسيا والمحيط الهادئ وحلف شمال الأطلسي (الناتو) محور تركيز الإستراتيجية العسكرية والأمنية الأمريكية. ففي يوليو 2023، جددت قمة الناتو دعوتها إلى اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلندا للإنضمام إليها، ونظمت اجتماعًا جماعيًا بين قادة الدول الأعضاء في الناتو وقادة الدول الأربع، بهدف رفع “العزيمة” المتمثلة في التنسيق الوثيق مع بعضها البعض.
وفي هذا الصدد، أشارت الصين إلى أن الناتو يدعي أنه تحالف دفاعي، لكنه واصل توسيع قوته عبر الحدود وإثارة المواجهات في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. إن زحف حلف شمال الأطلسي شرقاً نحو منطقة آسيا والمحيط الهادئ لن يؤدي إلا إلى إثارة التوترات الإقليمية، وإشعال شرارة المواجهة بين المعسكرات، حتى اندلاع “حرب باردة جديدة”.
وعدّلت الدول الرئيسية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ إستراتيجياتها الخارجية وتسريع اختيار أحد الجانبين، مدفوعة بحمى المنافسة الإستراتيجية الأمريكية تجاه الصين. ومن بين تلك الدول اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا تميل أكثر نحو الولايات المتحدة وتعزز التعاون العسكري داخل نظام التحالف. ومنذ اندلاع الأزمة الأوكرانية، سلطت اليابان الضوء على نهج “اثنين في واحد” المتمثل في الجمع بين المفاهيم الدبلوماسية العدوانية والسياسات الأمنية الهجومية.
وفي عام 2023، عملت اليابان بنشاط على دفع التوافق بين شركاء التحالف بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ مع حلف شمال الأطلسي ودعوة كوريا الجنوبية وأستراليا والهند وإندونيسيا وفيتنام وغيرها من الدول للمشاركة في قمة مجموعة السبع مغتنمة فرصة رئاستها الدورية للمجموعة. وفي الوقت نفسه، واصلت اليابان إعطاء الأولوية لجنوب شرق آسيا والعمل كمساعد للولايات المتحدة في تعزيز التعاون الأمني البحري مع دول آسيان.
وفي أبريل 2023، طرحت اليابان “المساعدات الأمنية الرسمية” (OSA) للتركيز على تعزيز التعاون الأمني البحري مع الفلبين وماليزيا وفيتنام ودول أخرى. وفي ديسمبر العام نفسه، سلّمت اليابان منظومة رادار ساحلية إلى الفلبين، والذي كان أول عملية نقل معدات عسكرية رئيسية لليابان بعد رفع حظر التصدير الدفاعي بعد الحرب عام 2014.
وفي أوائل عام 2023، حققت اليابان وكوريا الجنوبية المصالحة على المستوى السياسي. وعلى هذا الأساس، أسست الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية علاقة ثلاثية بشكل نشط. وفي العام نفسه، عقدت الدول الثلاث أول حوار اقتصادي وأمني، وقمة كامب ديفيد الثلاثية وغيرهما من جولات الاجتماعات الأخرى، ما عزز توسيع التعاون الثلاثي من مجال الأمن في الماضي إلى المجالات الاقتصادية والتكنولوجية وغيرها.
وكذلك توسيع التعاون من شمال شرق آسيا ليشمل مساحة واسعة تضم مضيق تايوان وبحر الصين الجنوبي. وبطبيعة الحال، بسبب المظالم الطويلة الأمد بين اليابان وكوريا الجنوبية من حيث التاريخ والثقافة والنزاعات الإقليمية، لا يزال هناك احتمال انتكاس العلاقة بين البلدين، ولا يزال الأمر صعبا بالنسبة للولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية لتشكيل تحالف عسكري ثلاثي.
وقد عملت روسيا على تسريع “تحولها نحو الشرق”، والسعي إلى توسيع مجالها الدولي في منطقة آسيا والمحيط الهادئ مع التركيز على الحفاظ على نفوذها التقليدي في آسيا الوسطى.
ففي عام 2023، تبادل رئيسا الصين وروسيا الزيارات، وأصبحت الثقة السياسية المتبادلة بين البلدين أقوى في ظل تعاون عملي أكثر مرونة ووصول حجم التجارة الثنائية إلى 240.112 مليار دولار أمريكي. وفي الوقت نفسه، واصلت روسيا تعزيز علاقاتها مع شركائها التقليديين في منطقة آسيا والمحيط الهادئ بما في ذلك الهند وكوريا الديمقراطية وفيتنام وميانمار.
وفي سبتمبر 2023، أجرى الزعيم الأعلى لكوريا الديمقراطية كيم جونغ أون بزيارة روسيا، وعملت كوريا الديمقراطية وروسيا بشكل شامل على تعميق التعاون السياسي والأمني الثنائي.
وفي نوفمبر العام تفسه، أطلقت كوريا الديمقراطية بنجاح أول قمر صناعي للاستطلاع العسكري. وخلص جهاز المخابرات الوطني الكوري الجنوبي إلى أن مساعدة روسيا وراء نجاح إطلاق قمر لكوريا الديمقراطية الصناعي.
وفي السنوات الأخيرة، وعلى الرغم من أن الهند لا تزال تدعي الالتزام بالسياسة الخارجية المتمثلة في “التحالفات المتعددة الاتجاهات”، لكن اتجاهها المؤيد للولايات المتحدة أصبح في الواقع واضحا على نحو متزائد، وواصلت علاقاتها مع الولايات المتحدة تحقيق اختراقات جديدة.
وفي عام 2022، انضمت الهند على التوالي إلى “الإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ” (IPEF) و”شراكة منطقة المحيطين الهندي والهادئ للتوعية بالمجال البحري” (IPMDA) اللتين طرحتهما الولايات المتحدة.
في يناير 2023، كما عقدت الولايات المتحدة والهند الاجتماع الأول لـ”مبادرة الولايات المتحدة والهند بشأن التكنولوجيا الحرجة والناشئة” (iCET) مع التركيز على تعزيز التبادلات بين البلدين في مجالات مثل الابتكار الدفاعي والتعاون التكنولوجي وسلاسل إمداد أشباه الموصلات المرنة والفضاء وهندسة العلوم والتكنولوجيا، لإظهار اتجاه البلدين لتقوية الروابط بينهما وتعميق التعاون الإستراتيجي. وفي يونيو العام نفسه، أجرى رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي زيارة للولايات المتحدة، موضحًا بشكل أكثر أن تكون الهند والولايات المتحدة “أحد أقرب الشركاء في العالم”، وجدد تأكيده على أن الهند والولايات المتحدة ستعززان التعاون الشامل.
وعلى المستوى الإقليمي فإن شوفينية القوى الكبرى في الهند آخذة في الارتفاع، كما تحولت سياستها الإقليمية من مبدأ “الجوار أولاً” إلى مبدأ “الهند أولاً”. وكانت الولايات المتحدة “سعيدة برؤية” هذا التحول، ودعمت زعامة الهند في جنوب آسيا. وبالمقابل، ذعنت الهند لتوسع نفوذ الولايات المتحدة في العديد من دول جنوب آسيا. وقد شكل البلدان بالفعل “الجبهة الموحدة” في جنوب آسيا.
وفي مواجهة المنافسة بين القوى الكبيرة، تسعى رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) جاهدة إلى تعزيز الاستقلال الإستراتيجي وتجنب “اختيار أحد الجانبين”. وابتداء من عام 2022، وخاصة بعد تولي إندونيسيا الرئاسة الدورية لآسيان في عام 2023، أعادت آسيان تعزيز “وحدتها” وحاولت إعادة بناء “مكانتها المركزية”. فمن ناحية، تسعى آسيان إلى تركز الأجندة الإقليمية على التعاون الاقتصادي.
ففي عام 2023، عقدت القمة الثالثة والأربعون لآسيان تحت شعار “الآسيان مهمة: محور النمو”، مع التركيز على تعميق التعاون بين آسيان وجميع الأطراف، والحفاظ على النمو الاقتصادي السريع والشامل والمستدام في المنطقة، لبناء المنطقة بشكل مشترك لتصبح مركز النمو الاقتصادي العالمي. ومن ناحية أخرى، تعمل آسيان على تنسيق العلاقات بين القوى الكبيرة وتعزيز “مكانتها المركزية” في الهيكل الأمني لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ.
على سبيل المثال، تُعَد قمة شرق آسيا منتدى إستراتيجياً يجمع قوى كبيرة إقليمية مثل الصين والولايات المتحدة وروسيا واليابان والهند، وبعد اندلاع الأزمة الأوكرانية، لم تُعقد هذه القمة في الموعد المقرر فحسب، بل أصدرت بيانا مشتركا لها في سبتمبر 2023.
وأكد البيان إجماع جميع الأطراف الحفاظ على قمة شرق آسيا، ووعد بالتركيز على التنمية الاقتصادية الإقليمية وتعزيز التعاون في سلاسل الإمداد والصناعة. وهذا له أهمية رمزية في الحفاظ على “الموضوع الرئيسي” المتمثل في السلام والتنمية الإقليميين، كما يسلط الضوء على الدور الخاص الذي تلعبه آسيان ولا يمكن استبدالها باعتبارها “الجسر” في الهيكل الأمني لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ.
ونظراً لتأثر التعديلات الإستراتيجية للقوى الرئيسية في المنطقة وانقسامها وتكتلها، فقد أظهرت كل منطقة فرعية من منطقة آسيا والمحيط الهادئ أوضاعاً أمنية مختلفة. ففي شمال شرق آسيا، نشأت مواجهة بين كوريا الديمقراطية-روسيا والولايات المتحدة-اليابان-كوريا الجنوبية.
وقد أكدت الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية أنها ستتشارك استيجابة لمواجهة “تعزيز التعاون العسكري بين روسيا وكوريا الديمقراطية”. وباستخدام هذا كذريعة، عززت الولايات المتحدة بشكل نشط عملية التشاور بشأن توفير “الردع الموسع” لكوريا الجنوبية، وأطلقت مناورات ثلاثية بين الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية، وفعّلت بالكامل آلية مشاركة بيانات التحذير من صواريخ كوريا الديمقراطية في الوقت الحقيقي، ما أدى إلى تفاقم التوترات في شبه الجزيرة الكورية.
وفي جنوب آسيا، تنظر الولايات المتحدة والهند إلى الصين باعتبارها “تهديداً مشتركاً” وتستخدمان هذا الادعاء لتشكيل إجماع إستراتيجي وتعزيز العلاقات الثنائية، مما يزيد حالة عدم اليقين والتعقيد للوضع الأمني الإقليمي. أما في جنوب شرق آسيا، نجحت آسيان نسبياً في الحفاظ على وضع التعاون في المنطقة بفضل جهودها في تثبيت الاستقلال الإستراتيجي. ولكن الاختلافات بين المناطق الفرعية تؤدي إلى تشابك الفوضى والتعاون وتواجد التحديات والفرص في منطقة آسيا والمحيط الهادئ بأكملها.
الأمن التقليدي والأمن غير التقليدي يشكلان تحدييْن مزدوجين لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ
في السنوات الأخيرة، أدى اضطراب الوضع الدولي وتشدد المنافسة بين القوى الكبيرة إلى عودة القضايا الأمنية التقليدية إلى الأجندة الرئيسية لأمن منطقة آسيا والمحيط الهادئ. ويتجلى ذلك في زيادة الميزانيات العسكرية للدول الرئيسية في المنطقة، وزيادة عدد التعاون العسكري بأنواعها المختلفة، والتدريبات العسكرية التي تتميز بطبيعة المواجهة الواضحة.
وعلى وجه الخصوص، طرحت الولايات المتحدة مساعدة حلفائها على تحقيق التحديث العسكري، ووضعت الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية “الردع الموسع” على جدول الأعمال مرة أخرى، وتلقت الفلبين المساعدة لبناء قدرات الأمن البحري من قبل الولايات المتحدة واليابان وأستراليا والدول الأخرى، وكل هذه زادت من تعزيز المواجهة والمخاطر في بؤر الأمن الساخنة بالمنطقة.
إن التحديات الأمنية غير التقليدية خطيرة. فقد شكلت الكوارث الطبيعية الناجمة عن الظروف المناخية المتطرفة وما ينتج عنها من أزمات الغذاء والطاقة تهديدات رئيسية تواجه الدول المتوسطة والصغيرة في جنوب آسيا وجنوب المحيط الهادئ. وهدد الاحتيال عبر الاتصالات والإنترنت سلامة الحياة والممتلكات للشعوب في الصين وبعض الدول الإقليمية.
وفي عام 2023 وحده، سلمت ميانمار أكثر من 41 ألف مشتبه به في الاحتيال الإلكتروني شمالي ميانمار إلى الصين. وقد عاد الإرهاب إلى الظهور من جديد، ولم تعان بلدان مثل أفغانستان وباكستان وحدها من الهجمات الإرهابية فحسب، بل شهدت أيضا جنوب الفلبين حوادث إرهابية عنيفة مجددا. إن الدول الصغيرة والمتوسطة في المنطقة الضحية الرئيسية للتهديدات الأمنية غير التقليدية، ونظراً لقدراتها المحدودة على الحكم الوطني، فإنها تدعو القوى الكبيرة إلى توفير المزيد من المنتجات العامة للحوكمة الأمنية.
وفي السنوات الأخيرة، أصبحت قضية بحر الصين الجنوبي واحدة من أبرز الملفات الأمنية الساخنة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. ففي عام 2023، ازدادت حدة قضية بحر الصين الجنوبي، ويرجع ذلك أساسًا إلى الاستفزازات المتكررة من جانب الفلبين. وبعد وصول إدارة فرديناند روموالديز ماركوس إلى السلطة، زادت اعتمادها على الولايات المتحدة وقدمت على انتهاكات مستمرة ضد جزيرة سكند توماس شول المرجانية. كما حاولت الفلبين تحقيق الاحتلال الدائم لهذه الجزيرة من خلال تعزيز “سيادتها” عليها بأساليب مختلفة. وردا على ذلك، اتخذت الصين إجراءات حازمة لحماية حقوقها.
وعلى هذه الخلفية، تدخلت الولايات المتحدة وحلفاؤها واحداً تلو الآخر، ما أدى إلى تأجيج تصرفات الفلبين المحفوفة بالمخاطر ودفع تدويل قضية بحر الصين الجنوبي وإضفاء الطابع القضائي عليها وربط الرأي العام بها، مما أسفر عن زيادة التعقيد والخطورة لصراع الموقع لقضية بحر الصين الجنوبي.
وبشكل عام، لا يزال الوضع في بحر الصين الجنوبي في حالة صراع ولكن دون كسر العلاقات. وفي حين تعمل الصين بنشاط على حماية السيادة الوطنية، فإنها تلتزم بـ”نهج المسار المزدوج” للحفاظ على الاستقرار العام.
ففي عام 2023، عقدت الصين ودول آسيان جولات متعددة من اجتماعات فرق العمل المشتركة و كبار المسؤولين لتعميق التوافق حول مواصلة التنفيذ الكامل والفعال لـ”إعلان سلوك أطراف بحر الصين الجنوبي”. وفي أكتوبر العام نفسه، أعلنت الصين عن الإطلاق الرسمي لمشاورات مسودة “مدونة قواعد السلوك في بحر الصين الجنوبي”، وتسعي جاهدة للتوصل إلى “مدونة السلوك” في موعد مبكر، وتحويل بحر الصين الجنوبي إلى بحر السلام والصداقة والتعاون.
سياسات “إزالة المخاطر” المروجة من طرف الولايات المتحدة والغرب تزيد تعقيدات الوضع الأمني الإقليمي
في ظل تأثير تشابك التغيرات الكبيرة التي لم يشهدها العالم منذ قرن من الزمان والمنافسة الجيوسياسية، أُعيد تشكيل سلاسل الإنتاج والإمداد العالمية بوتيرة متسارعة. إن تعديل السياسات الصناعية وإستراتيجيات سلاسل الإنتاج والإمداد في الولايات المتحدة وأوروبا له تأثير كبير على المشهد الاقتصادي العالمي، وقد شهد التوازن بين الاقتصاد والأمن تغيرات تاريخية في بناء نظام الجغرافيا الاقتصادية العالمية.
فبدءًا من رئاسة باراك أوباما ومرورًا بإدارتي دونالد ترامب وجو بايدن، تعمقت السياسة الأمنية الشاملة الأمريكية تجاه الصين تدريجيًا. أما في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، فقد أجبرت الولايات المتحدة حلفاءها على تسريع إعادة التشكيل الإقليمي لسلاسل الإنتاج والإمداد مع التركيز على صناعات التكنولوجيا الفائقة مثل أشباه الموصلات، تحت شعار ما يسمى بـ”الأمن الاقتصادي”، بهدف محاولة “فك الارتباط وكسر السلاسل” مع الصين.
ومنذ عام 2023، سرّعت الولايات المتحدة وحلفاؤها تلك العملية سالفة الذكر. وواصلت الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية ودول أخرى إصدار السياسات المختلفة إزاء الصناعات الرئيسية بما فيه أشباه الموصلات ومركبات الطاقة الجديدة والتجارة الرقمية، وطبقتها بشكل ملموس في أجندة التعاون الاقتصادي الثنائي والمتعدد الأطراف مع دول جنوب شرق آسيا وجنوب آسيا.
ففي جنوب آسيا، اغتنمت الهند فرصة إعادة الولايات المتحدة تشكيل سلاسل الإنتاج والإمداد وحاولت تحقيق “التجاوز عند المنعطفات” في الصناعة التحويلية، ودعمت الولايات المتحدة ذلك أيضًا.
وبالمقابل، واجهت البلدان الأخرى في جنوب آسيا مشاكل قاعدة الصناعة التحويلية الضعيفة والتحول الصناعي الصعب. وإذا استمر هذا الاتجاه فإن المشهد الاقتصادي لجنوب آسيا قد يتغير من التفوقات المتكاملة الحالية إلى تمحور حول الهند، وستصبح دول جنوب آسيا جزءاً من سلاسل الإنتاج والإمداد العالمية التي تقودها الولايات المتحدة.
وفي جنوب شرق آسيا، حاولت دول المنطقة مثل فيتنام وماليزيا “الرهان المتعدد”، ففي حين أصبحت “الدول المفضّلة الجديدة” للاستثمار ونقل التكنولوجيا من قبل الولايات المتحدة واليابان ودول أخرى، إلا أنها لم تتخل عن التعاون مع الصين. وفي الواقع، خلقت حالة تواجد المنافسة والتعاون مع الصين.
ففي سبتمبر 2023، زار الرئيس الأمريكي جو بايدن فيتنام، وأعربت الولايات المتحدة عن اعترافها بإمكانات فيتنام الهائلة باعتبارها لاعبًا رئيسيًا في صناعة أشباه الموصلات، ودعمها للتطور السريع للنظام البيئي لصناعة أشباه الموصلات في فيتنام، واستعدادها لتعزيز التعاون، بما في ذلك مساعدة فيتنام على تدريب المواهب التكنولوجية وتطوير العلوم والتكنولوجيا الفائقة وتحسين مكانة فيتنام في سلاسل إمداد أشباه الموصلات العالمية، وما إلى ذلك.
إن نقل سلاسل الإنتاج والإمداد بقيادة الولايات المتحدة والدول الغربية الهادف إلى “إزالة المخاطر” و”إزالة الطابع الصيني” المزعوم، سوف يؤدي إلى تفتيت المشهد الاقتصادي لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ.
في الوقت نفسه، يجبر الدول المتوسطة والصغيرة على “اختيار أحد الجانبين” ويؤثر على مفاهيمها الأمنية وسياساتها الخارجية. وبطبيعة الحال، لن يكون من السهل على الولايات المتحدة أن تنجح في محاولة استبعاد الصين من سلاسل الإنتاج والإمداد التي تقودها.
وقد شاركت الصين في التعاون في منطقة آسيا والمحيط الهادئ لعقود من الزمن، وأقامت العلاقات الاقتصادية والتجارية الوثيقة مع دول المنطقة، وتحتل مكانة أساسية في التكامل الإقليمي في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. وفي الوقت الحاضر، لا يزال التكامل الاقتصادي لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ يتقدم بشكل مطرد، والاستثمار التجاري والبنية التحتية والتواصل والترابط الرقمييْن نشطا بشكل خاص، وتتشابك سلاسل الإمداد مع الشبكات الصناعية في المنطقة بشكل عميق.
وفي الوقت نفسه، تمنح المزايا التي تتمتع بها الصين في الموقع الجغرافي، والنظام البيئي الصناعي، وحجم السوق، ومجموع المواهب مجالا واسعا للتعاون بين الصين والاقتصادات الأخرى في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. لذلك، ستواجه إعادة تشكيل سلاسل الإنتاج والإمداد في منطقة آسيا والمحيط الهادئ منافسة وتعاونًا متعدد الأطراف في المستقبل، وهي عملية تطورية طويلة الأمد وستتأثر بعوامل متعددة محلية ودولية وإقليمية.
تفكير في مسارات التعامل مع التغيرات الأمنية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ
في الوقت الحاضر وحتى فترة من الوقت في المستقبل، تستمر التعديلات الإستراتيجية للقوى الرئيسية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، خاصة تراكب المنافسة الإستراتيجية الأمريكية تجاه الصين مع التأثيرات العميقة للثورة التكنولوجية والثورة الصناعية، وإمكانية تأثر المشهد الدولي الإقليمي القائم على حماية السيادة والحفاظ على القدرات العسكرية بالمنافسة الاقتصادية والتكنولوجية في المستقبل، الأمر الذي يزيد من تعقيد الوضع الأمني وعدم يقينه في منطقة آسيا والمحيط الهادئ.
ومن أجل مواجهة الوضع المضطرب المتشابك في منطقة آسيا والمحيط الهادئ في ظل التغيرات الكبيرة، ينبغي للصين أن تتمتع بالثقة الإستراتيجية والشعور بالإلحاح الإستراتيجي، وتجسد مسؤوليتها كدولة كبيرة في تعزيز السلام والتنمية الإقليميين، وتكون بحزم مدافعا عن السلام ومحفزا للتنمية. ووفقا لروح مؤتمر العمل المركزي للشؤون الخارجية المنعقد ديسمبر 2023، ستهدف الصين في الفترة المقبلة إلى تعزيز بناء مجتمع مصير مشترك لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ، وتسعى جاهدة للعمل مع دول المنطقة لدفع بناء منطقة آسيا والمحيط الهادئ التي يدوم فيها السلام والأمن بشكل عام والرخاء المشترك والانفتاح والشمولية والنظافة والجمال.
أولا، التعامل بشكل صحيح مع العلاقات بين الدول الكبيرة، وخاصة العلاقات الصينية الأمريكية. إن العلاقات الصينية الأمريكية تشكل عاملا رئيسيا يؤثر على أمن منطقة آسيا والمحيط الهادئ. وعلى الرغم من عدم خضوع المنافسة الإستراتيجية الشاملة الأمريكية تجاه الصين لتغييرات جوهرية على المدى القصير، إلا أن الصين والولايات المتحدة توليان أهمية كبيرة للحفاظ على الاتصالات الضرورية لتجنب سوء الفهم وسوء التقدير. وأكد اجتماع سان فرانسيسكو بين الرئيسين الصيني والأمريكي نهاية عام 2023 مرة أخرى على التوافق الأساسي حول استقرار العلاقات الصينية الأمريكية.
ثانيا، تعزيز التنسيق الإستراتيجي مع الدول المتوسطة والصغيرة في المنطقة، والتغلب على خطر الانقسام والمواجهة الإقليمية، واغتنام الفرص المتاحة للوحدة والتعاون. ظلت الصين تولي أهمية كبيرة لمطالب الدول المتوسطة والصغيرة في المنطقة بالتركيز على التنمية الاقتصادية والاستجابة للتهديدات الأمنية غير التقليدية. وفي المستقبل، يتعين عليها مواصلة اتخاذ البناء المشترك العالي الجودة لـ”الحزام والطريق” ومبادرة التنمية العالمية كسبيل مهم، واستكشاف الديناميكية الجديدة للنمو الاقتصادي وقيادة إعادة تشكيل سلاسل الإنتاج والإمداد الإقليمية مع التركيز على الصناعات الناشئة، والعمل مع البلدان المتوسطة والصغيرة في المنطقة لتحقيق الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والتنمية المستدامة، والسعي المشترك للحفاظ على الأمن الإقليمي، وبناء نظام إقليمي عادل وشامل ومتوازن وتعاوني.
أخيرا، الإصرار على البحث عن التعاون والسلام من خلال النضال. في مواجهة ما يسمى “الردع المتكامل” الذي تدفعه الولايات المتحدة، يجب على الصين تعزيز التحديث العسكري والتركيز على تحسين القدرات القتالية الفعلية لجيشها؛ فيما يتعلق بقضية بحر الصين الجنوبي، وينبغي لها حماية سيادتها وأمنها ومصالحها التنموية بحزم.
وفي الوقت نفسه، يجب أن تقوم بالاستعداد بشكل جيد للإدارة والسيطرة على الأزمات الناتجة عن الاحتكاكات غير المتوقعة المحتملة. أما بالنسبة إلى التحديات الأمنية غير التقليدية، يجب أن تأخذ تعزيز الحوكمة الإقليمية على أساس التشاور المكثف والمساهمة المشتركة والمنافع المشتركة كمسار لإفساح المجال كاملا للمزايا التي تتمتع بها الصين في الاستجابة للمخاوف الأمنية للدول المتوسطة والصغيرة، وتعزيز التواصل الكامل مع هذه الدول على أساس آليات إقليمية متعددة الأطراف، وتحسين قدراتها على الحوكمة الأمنية، ودفع التعاون في حوكمة الأمن الإقليمي.
المصدر: مجلة العالم المعاصر التابعة لدائرة الشؤون الدولية للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني