عبد المجيد سويلم قسم البحوث والدراسات الإستراتجية والعلاقات الدولية 18-11-2024
كتبت أكثر من مرّة أنّ “حزب الله” اللبناني بعد أن عاد إلى حيويّته، وبعد أن استعاد عافيته، ونهض من جديد بعد مرحلة ما أُطلق عليها بحقّ مرحلة “الرزمة القاتلة” لم يعد قابلاً، وليس بمقدور قوّة عسكرية نظامية أن تهزمه مهما امتلكت هذه القوة من تفوّق جوّي، ومن قدرات استخبارية، ومهما كان لديها من أساليب جهنمية للقتل والاغتيال والإبادة، ومهما وصلت من دركٍ في خسّتها ونذالتها، ومهما كان لديها من الأسلحة الفتّاكة، ومن الوقت لاستمرارها بالحرب العدوانية، ومهما كان لديها من غطاء داخلي كامل، ومن دعم خارجي دائم وشامل.
لم تذهب دولة الاحتلال إلى جنوب لبنان برغبتها وباختيارها الحرّ، وإنّما ذهبت صاغرة ومُجبرة، ولم تصل إلى هناك، وتنتقل إلى “العملية البرّية” التدميرية إلّا لأنّ “الرزمة” قد فشلت فشلاً ذريعاً في الوصول إلى انهيار الحزب، وفشلت أكثر في “تسهيل” مهمّة جيش الغزو في هذه العملية.
وعندما أعلن جيش الاحتلال أنّه سينتقل إلى العملية البرّية في جنوب لبنان، وأنّ هذه الجبهة قد أصبحت الجبهة الأولى، وأنّ جبهة الجنوب الفلسطيني في قطاع غزّة، قد تحوّلت إلى جبهة “ثانوية” فقد كانت هذه المسألة بالذات، أو هذا التحوّل بحدّ ذاته ممرّاً إجبارياً يستحيل الحديث الإسرائيلي عن “النصر” الموعود من دونه.
لو وافقت دولة الاحتلال على صفقة للتبادل في القطاع دون “الرزمة” بما في ذلك سلسلة الاغتيالات المؤلمة للحزب، وخصوصاً الوصول إلى اغتيال أمينه العام حسن نصر الله، ويده اليُمنى التي تمثّلت باغتيال هاشم صفيّ الدين وكوكبة كبيرة من القيادات الوازنة فيه.
لو وافقت دولة الاحتلال، أيضاً، على الصفقة في حينه، فإنّها ستكون قد هُزمت مرّتين: مرّةً لأنها لم تحقّق أهدافها في القطاع، ومرّة أخرى لأنّ الحزب بقي قوّياً في موقفه وموقعه من الإسناد.
هذا ما يفسّر الذهاب إلى جنوب لبنان، وذلك لأنّ المراهنة على “الرزمة القاتلة” كانت عالية للغاية في إحداث تحوّل إستراتيجي في كامل هذه الحرب الإجرامية ونتائجها، وكان الأمل يحدو قيادة جيش الاحتلال، والقيادة السياسية كلّها، بما في ذلك قيادات وازنة من “المعارضة” الإسرائيلية نفسها بأن تنجح “الرزمة” في “انتصار” يمكن أن يوقف الحرب العدوانية بعد أن تكون دولة الاحتلال قد “حيّدت” قوّة الحزب، لكي تعود إلى فرض شروطها على القطاع، وتكون قد أفقدت الدولة الإيرانية ذراعها الضّاربة، وتكون قد حشرت سورية، الدولة والنظام في زاوية ضيّقة لن تكون بموجبها قادرة على “الصمود”، وبحيث يكون مثل هذا الصمود هو أقرب إلى حرب البقاء منه إلى المجابهة والتصدّي.
ولو نجحت هذه المراهنة الإسرائيلية لكان الصدام مع إيران قد اتخذ وجهاً آخر، وأشكالاً أخرى من الهجوم على إيران بما في ذلك التوافق الإسرائيلي الأميركي، وربّما “الغربي”، أيضاً عليه. هنا حشدت دولة الاحتلال فرقها العسكرية المميّزة، وألوية الجيش التي تشكل رأس حربة خاصة في هذه الفرق، وبدأت العملية البرّية بحذر كبير أجبرها بعد “فشل الرزمة واستعادة الحزب لقوّته وإعادة تنظيم صفوفه” على إطلاق مسمّيات خاصة على هذه العملية، بما في ذلك عمليات “الاستطلاع بالنار” وجلبت القوات المختصة بهذا النوع من الاستطلاع وهي “وحدة إيغوز”.
ذُهل جيش الغزو من قدرة الحزب على القتال، بعد أن كانت معظم المواقع التي كانت تفترض دولة الاحتلال تواجد قوات الحزب فيها، وكانت قد قصفتها بأطنانٍ من القنابل الثقيلة الخارقة للتحصينات، وتمّ توجيه ضربات قاتلة للوحدات الإسرائيلية التي فشلت في إحداث أيّ نوع من الفرق في القتال باستثناء تدمير القرى التي تقع على الحافّة بالذات. كرّرت المحاولة لمرّات عدّة، وتكرّر الفشل نفسه.
عادت قوات الاحتلال لتوسيع محاولات الاختراق على عدة نقاط جديدة، وتكرّر نفس الفشل في أربع محاولات كبيرة، واستنتجت القيادات العسكرية استحالة الاختراق بهذا النوع من المحاولات، وتراجعت إلى الخلف، وأُعيد تنظيم بعض الألوية لهدف إعادة تنظيم الهجمات، وتكرار المحاولات دون جدوى حتى الآن، وهو ما أدخلها فيما تسمّيه “المرحلة الثانية” من عمليتها البرّية.
في هذه الأثناء كان الحزب يركّز قصفه لكل المواقع العسكرية التي تقف في خلفية الفرق والألوية الإسرائيلية، ويمنعها من مرونة الحركة والإسناد، ويُجبرها على الاختباء في الثكنات بدلاً من الاندفاع، ويحدّ من قدرتها على تقديم الغطاء الخلفي النشط.
ليس هذا فحسب، بل إن الحزب قد وسّع من مديات ودائرة الاستهداف للخط الثالث لقوات الاحتلال بعمق يصل إلى أكثر من 40 كم، واستهداف المعسكرات الكبيرة في شرق حيفا، وجنوبها إلى أن وصلت مسيّرات الحزب إلى شمال “المثلّث” كما حصل في “بنيامينا”، وكما تمّ ضرب عدّة معسكرات ومصانع عسكرية حسّاسة في هذا المحيط.
شملت استهدافات الحزب دائرة واسعة من الشمال كلّه، وازداد القصف بنوعيّات جديدة من الصواريخ، وبأجيالٍ متطوّرة من المسيّرات، وبلغت خسائر الاحتلال أعداداً قياسية على ما تبدو عليه الأمور، دون أن تتجرّأ قواته حتى الآن على استخدام كبير أو مكثّف للدبّابات خوفاً من أن يكون الحزب قد أعدّ لها من المفاجآت والكمائن ما يُنهي الحملات والموجات والاندفاعات قبل أن تبدأ فعلياً.
ماذا يعني هذا الفشل حتى الآن؟
ببساطة هذا يعني أنّ جيش الاحتلال لم يعد أمامه سوى أن يدفع بألوية دبّاباته إلى الأمام، ولم يعد قادراً على تحقيق ما يعتدّ به دون أن يتقدّم بها على عدّة محاور علّه يتمكّن من تأمين نقاط ارتكاز يمكن أن تجعله قادراً على “الاستقرار” في بعض القرى والبلدات في منطقة الخطّ الثاني لكي يساوم من خلال هذا “الاستقرار فيها” على شروط أفضل لوقف إطلاق النار.
هذا هو أقصى طموحاته، وأبعد ما يمكن أن يُعوّل عليه في هذه المرحلة بهدف إجبار الحزب على القبول ببعض الاشتراطات “الجديدة” في تفسير، وفي تطبيق القرار 1701.
جيش الاحتلال يغامر بهذه المحاولة لأنّه يئس من كلّ المحاولات السابقة، وهو فهم أنّ القصف لن يحلّ له المشكلة، وأدرك بعمق أنّ الحزب يجرّه إلى منطقة التحام كبرى لا يعرف إلى أيّ حدٍّ هو قادر عليها!
ولهذه المغامرة عدّة وجوه كلّ واحد منها هو بمثابة كابوس أسوأ من الآخر.
فإذا ما تمّ إلحاق خسائر كبيرة بالكتائب والألوية المُندفعة، وإذا ما تمّ تدمير عشرات الدبّابات فالقوات لا تستطيع استكمال الهجوم، وستعود بحاجة ماسّة لإعادة ترتيب الصفوف، ولاستبدالاتٍ لا غنى عنها، وهذه مسألة ربما تصل بالجيش إلى حافّة الانهيار العسكري في مثل هذا الواقع من خسائره.
وإذا ما كان القرار بالاستمرار فهذه مُخاطرة انتحارية، لأنّ الانهيار في هذه الحالة سيكون كبيراً، وليس مجرّد فشل مهما كان هذا الفشل مؤلماً للجيش.
وإذا ما كان القرار هو طلب وقف إطلاق نار فهذا ليس سوى إعلان هزيمة.
وإذا ما كان القرار هو الذهاب لقصف مدينة بيروت بصورةٍ مدمّرة فهذا يعني أنّ الحزب سيُخرِج أسلحته الخاصة بهذا النوع من المعركة، ولن يكون سهلاً على دولة تفادي الدمار في بعض المدن الإسرائيلية، بما في ذلك تدمير البنى الحيوية مقابل تدمير البنى الحيوية اللبنانية.
لذلك فإنّ دولة الاحتلال تحتاج إلى ساحرٍ حاذقٍ لإخراجها من هذا المُختنَق، وليس إلى بهلوان كما هو حال نتنياهو وكلّ أعوانه، وبما أنّه لم يكن في الولايات المتحدة من ساحرٍ كهذا طوال فترة هذه الحرب البربرية، والقادم الجديد إلى البيت الأبيض لا هو ساحر، ولا هو بهلوان، وهو أقرب إلى الأخرق المتهوّر فإن علينا أن ننتظر العجائب إلى أن يقفز هذا الساحر الإسرائيلي إلى واجهة المشهد، أو أن يتشجّع أحد القضاة، أو ربما قاضية واحدة على الإقدام على من تخلّف عن الإقدام عليه عشرات أدعياء الدفاع عن “الأمن القومي” في دولة الاحتلال، وإنّ غداً لناظره قريب.