الأحد. ديسمبر 22nd, 2024

قبل أكثر من عقد، حذر المؤرخ ألفريد ماكوي من نهاية الهيمنة الأميركية العالمية بشكل أسرع مما يتوقعه كثيرون، مقدرًا أن الولايات المتحدة قد تواجه تراجعًا كبيرًا بحلول عام 2025. في تلك الفترة، لم تكن هذه التحذيرات سوى توقعات بعيدة بالنسبة للبعض، إلا أن التطورات العالمية الحالية باتت تُظهر أن تلك التنبؤات لم تكن مجرد أوهام، بل كانت قراءة دقيقة لتراجع القوة الأميركية في وجه القوى الصاعدة والتحديات الداخلية والخارجية.

جذور التحذيرات وتحليل المخاطر

مع بداية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، أطلق ماكوي مقالته الشهيرة التي نشرها في موقع “توم ديسباتش”، والتي لفتت الانتباه إلى العوامل التي قد تؤدي إلى تقويض النفوذ الأميركي. أشار ماكوي إلى مجموعة من المؤشرات، بدءًا من التحديات الاقتصادية وصولًا إلى الفجوات السياسية والعسكرية، والتي إن لم تُعالج بجدية قد تؤدي إلى فقدان الولايات المتحدة لمكانتها العالمية.

كان التحليل مبنيًا على أفكار مستشار الأمن القومي السابق زبيغنيو بريجنسكي الذي اعتبر أن التفوق الأميركي يستند إلى ركائز ثلاث: السيطرة على أوروبا من خلال حلف شمال الأطلسي، كبح الصين في المحيط الهادئ، ومنع القوى الإقليمية من الهيمنة على الشرق الأوسط وآسيا الوسطى. وقد اعتبر بريجنسكي أن أي تراجع في هذه المناطق الاستراتيجية سيؤدي إلى اهتزاز القوة الأميركية بشكل كبير.

الانعطافات السياسية في عهد ترامب

جاءت إدارة الرئيس دونالد ترامب لتزيد من تعقيد المشهد. سياسة “أميركا أولاً” التي رفع شعارها منذ حملته الانتخابية أثارت مخاوف المراقبين الدوليين والمحليين من تدهور العلاقات الأميركية مع حلفائها التقليديين وتراجع التزاماتها العالمية. ومع تركيزه على السياسة الداخلية، عزز ترامب من فكرة الانعزالية التي لم تتماشى مع تاريخ الولايات المتحدة كقوة عالمية تعتمد على تحالفات وشبكات معقدة من التعاون الدولي.

ورغم تعهده بالانسحاب من الحروب الخارجية، إلا أن سياسته العسكرية لم تتراجع فعليًا. فقد شهدت فترة حكمه زيادة في ميزانية الدفاع وتكثيفًا للوجود العسكري في الشرق الأوسط وآسيا. هذه التناقضات أثارت تساؤلات حول مدى قدرة الولايات المتحدة على تبني سياسات خارجية فعالة ومستدامة تعزز مصالحها دون إثقال كاهلها المالي والعسكري.

الانسحاب من أفغانستان: اللحظة الحرجة

شكل انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان في أغسطس 2021 محطة تاريخية أظهرت جوانب الضعف في الاستراتيجية الأميركية. أثار الانسحاب السريع والمفاجئ الذي تم خلال إدارة الرئيس جو بايدن بعد 20 عامًا من التواجد العسكري، جدلًا كبيرًا داخل الولايات المتحدة وخارجها. عكست مشاهد الفوضى في مطار كابول والهروب الجماعي للمدنيين المخاوف من قدرة واشنطن على الحفاظ على دورها القيادي، حيث أظهرت تقارير لاحقة أن قرارات الانسحاب لم تكن مدروسة بشكل كافٍ، مما أثّر سلبًا على سمعتها الدولية.

التحديات الصاعدة: الصين وروسيا

في موازاة ذلك، كانت الصين تعمل بشكل منهجي على توسيع نفوذها في آسيا والمحيط الهادئ. و عززت مبادرة “الحزام والطريق” التي أطلقتها في 2013، من سيطرتها الاقتصادية ووفرت لها موطئ قدم في بلدان عديدة من آسيا إلى أفريقيا وحتى أوروبا. هذا الانتشار الاقتصادي أثار قلق الولايات المتحدة وحلفائها، الذين اعتبروا أن النفوذ الصيني يمثل تحديًا استراتيجيًا طويل الأمد.

بدورها عززت روسيا من دورها كلاعب دولي مؤثر، سواء في الشرق الأوسط أو في أوروبا الشرقية، كما أثبتت في تدخلاتها العسكرية ودعمها للحلفاء في أزمات معقدة مثل الأزمة الأوكرانية والحرب في سوريا. هذه التحركات كشفت عن تراجع التأثير الأميركي في مناطق كان يُنظر إليها على أنها ساحات نفوذ تقليدية لواشنطن.

التأثيرات الاقتصادية والداخلية

على الصعيد الداخلي، واجهت الولايات المتحدة تحديات اقتصادية كبيرة، بما في ذلك تفاقم الدين الوطني وزيادة الفجوات الاجتماعية. وأضاف تفشي جائحة كوفيد-19 أبعادًا جديدة لأزمات البلاد، حيث أظهر مدى ضعف البنية التحتية الصحية وصعوبة اتخاذ قرارات متماسكة في ظل انقسامات سياسية حادة.

هذه الأزمات الداخلية أثّرت على قدرة واشنطن في التعامل مع التحديات العالمية بشكل حاسم. فمع استمرار المشاكل الداخلية، أصبحت الولايات المتحدة أكثر انكفاءً على نفسها وأقل قدرة على تصدير نموذجها الديمقراطي إلى الخارج، مما دفع كثيرين للتساؤل عن مدى استعدادها للعودة بقوة إلى الساحة الدولية بعد فترة من التراجع.

الآراء المتفائلة: بين القوة الكامنة والمرونة الأميركية

على الرغم من كل هذه المؤشرات السلبية، يجادل بعض المحللين مثل مايكل بيكلي بأن الولايات المتحدة ما زالت تحتفظ بقدرات هائلة تميزها عن منافسيها. تساهم التكنولوجيا المتقدمة والابتكار المستمر في دعم التفوق الأميركي.

كما أن التحالفات المتينة التي بنتها الولايات المتحدة عبر عقود، لا سيما في أوروبا ومنطقة المحيط الهادئ، توفر لها دعمًا مستمرًا في مواجهة القوى المنافسة.

إضافة إلى ذلك، يعتقد هؤلاء المحللون أن المجتمع الأميركي يمتلك القدرة على التأقلم مع التحديات وإعادة صياغة السياسات بشكل يضمن استمرارية دور البلاد كقوة مؤثرة. يرى هؤلاء أن النظام الديمقراطي الأميركي، رغم ما يعانيه من أزمات، قادر على تجاوز العقبات والعودة بقوة إلى الساحة الدولية.

 هل نحن نعيش بداية النهاية؟

من الواضح أن التحديات التي تواجه الولايات المتحدة معقدة ومتعددة الجوانب. يشمل ذلك التغيرات في النظام العالمي، وصعود قوى جديدة تتنافس على النفوذ، إضافة إلى الأزمات الداخلية التي تهدد تماسكها. إلا أن بقاء الهيمنة الأميركية يعتمد إلى حد كبير على قدرتها في التكيف مع هذه التحديات وإعادة تعريف دورها في العالم بما يتماشى مع التحولات الجيوسياسية الحديثة.

الأسئلة المتعلقة بمستقبل النفوذ الأميركي لا تزال مفتوحة. فهل سيؤدي تراجع النفوذ في بعض المناطق إلى زوال الهيمنة بشكل كامل، أم أن الولايات المتحدة ستتمكن من إعادة تموضعها في نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب؟ يبقى الجواب رهنًا بتطورات السنوات المقبلة، ومدى مرونة وفعالية السياسة الأميركية في التعامل مع القوى الصاعدة والتغيرات الداخلية والخارجية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *