إعداد ميساء رزيق: قسم البحوث والدراسات الاستراتجية والعلاقات الدولية 28-10-2024
يعد كتاب نظام التفاهة للمفكر الكندي آلان دونو من الأعمال الفكرية التي تتسم بالعمق والجرأة في تحليلها للمجتمع المعاصر. يحلل دونو في هذا الكتاب ما يسميه “النظام التافه”، ويطرح رؤية ناقدة للتحولات الجذرية التي شهدها العالم في العقود الأخيرة. قد يبدو عنوان الكتاب مفاجئًا أو حتى مثيرًا للتساؤل، لكنه يعكس فكرته الجوهرية التي تقول إن التفاهة أصبحت أحد المبادئ الحاكمة لعصرنا، حيث تسللت إلى شتى مجالات الحياة، وأدت إلى تدهور المعايير التي كانت تضمن جودة ورفعة القيم الفكرية، والثقافية، وحتى الأخلاقية.
النظام التافه: تدهور المعايير
يصف آلان دونو في نظام التفاهة كيف أصبحت التفاهة أكثر من مجرد ظاهرة، بل أصبحت نظامًا متكاملًا يتحكم في السياسة، والاقتصاد، والتعليم، والفن، والإعلام. يوضح الكتاب كيف تحولت المجتمعات من التركيز على الجودة والقيمة الحقيقية إلى التركيز على المظاهر السطحية والنتائج السريعة. وفقًا لدونو، النظام التافه هو نظام يعمل على ترسيخ فكرة بسيطة: لا مكان للتميز ولا مكان للإبداع الذي يخرج عن المألوف. إذا كنت تريد النجاح في هذا النظام، عليك أن تكون “عاديًا” بقدر الإمكان، وأن تتخلى عن كل ما يميزك أو يجعلك مختلفًا.
كيف يتسلل النظام التافه الى حياتنا اليومية؟
يرى دونو أن التفاهة أصبحت قوة مسيطرة تحرك المجتمع من الداخل، إذ بات من الصعب على الأفراد الالتزام بالمعايير المهنية أو الثقافية القديمة. على سبيل المثال، يلاحظ كيف أن التعليم قد تحول إلى وسيلة لنقل المعلومات بسرعة، دون إعطاء أهمية لتطوير التفكير النقدي والإبداعي لدى الطلاب. في مجالات مثل السياسة، أصبحت الكاريزما الخطابية أهم من الكفاءة الفعلية، وتحولت الديمقراطية من نظام يسعى لخدمة الشعب إلى أداة للوصول إلى السلطة.
في الإعلام، نجد أن الأخبار أصبحت تركز على القصص المثيرة والسطحية بدلًا من التحليل العميق، وتحولت الصحافة من كونها السلطة الرابعة إلى مجرد وسيلة لجذب القراء بأي ثمن، حتى لو كان ذلك على حساب المصداقية.
أمثلة واقعية ونظرة نقدية
ما يميز هذا الكتاب ليس فقط التحليل العميق ولكن أيضًا الأمثلة الواقعية التي يذكرها دونو، والتي تجعل القارئ يعي تمامًا مدى انتشار هذا النظام التافه في حياته اليومية. يتحدث دونو عن الشخصيات التي تتصدر المشهد الإعلامي والسياسي، والتي غالبًا ما تكون تافهة، لا تملك قيمًا حقيقية أو إنجازات كبيرة، ولكنها تتماشى مع نظام يُكرّم الرداءة ويهمّش الجودة.
النظام التافه في الاقتصاد والتعليم
وفيما يخص الاقتصاد، يناقش الكتاب كيف باتت الشركات الكبرى تتحكم في حياة الأفراد بشكل يجعلهم يعتمدون على منتجاتها وخدماتها دون التفكير في تأثيرها عليهم. يتطرق إلى تأثير نظام العمل الذي يشجع الموظفين على أن يكونوا “جزءًا من الفريق”، حيث يُنظر إلى الإبداع على أنه تهديد للنظام المستقر، وبالتالي يتم تشجيع الفرد على أداء واجباته دون التفكير خارج الصندوق.
أما في التعليم، فإن دونو يرى أن المؤسسات التعليمية لم تعد تهدف إلى تكوين مفكرين وقادة، بل إلى إنتاج أفراد قادرين على الاندماج في النظام التافه دون الكثير من التساؤلات. أصبحت الشهادات، وليس المعرفة، هي الهدف الأسمى، ما جعل التعليم عبارة عن عملية ميكانيكية تفتقر إلى الروح والمعنى.
التحليل الفلسفي والسوسيولوجي: أسباب ظهور النظام التافه
عبر تحليل فلسفي وسوسيولوجي، يحاول دونو أن يقدم تفسيرًا لظهور هذا النظام. يرى أن التحولات الاقتصادية والسياسية العالمية، خاصة بعد صعود الرأسمالية العالمية، هي أحد الأسباب الأساسية لتفشي التفاهة. أصبحت الربحية والعائدات المادية هي المقياس الأساسي للنجاح، وهذا على حساب القيم الثقافية والأخلاقية. لم يعد المجتمع يعلي من شأن المثقفين أو المبدعين كما كان الحال في الماضي، بل أصبح يمجد الشخصيات التافهة التي تجذب الاهتمام بطرق سطحية.
لغة الكتاب واسلوبه:
يتميز أسلوب دونو بلغة نقدية قوية وواضحة، تُشعر القارئ بمدى تأثره الشخصي بالتغيرات التي طرأت على المجتمعات الحديثة. يسعى دونو، عبر سرد واضح وسلس، إلى إقناع القارئ بأن النظام التافه ليس مجرد مشكلة فردية، بل هو نظام شامل يسيطر على حياتنا بشكل خفي ولكنه قوي.
يخاطب دونو في كتابه نخبة القراء الذين يشعرون بالضيق من هذا النظام، ويقدم لهم إطارًا فكريًا يساعدهم على فهم الواقع، ويدعوهم في النهاية إلى عدم الاستسلام للتفاهة، بل إلى العمل على استعادة القيم الحقيقية التي تجعل من المجتمع مكانًا أفضل.
نقاط قوة وضعف الكتاب
يُعد كتاب نظام التفاهة عملاً مميزًا بقوته التحليلية، وأسلوبه الصريح والجريء. إلا أن البعض قد يجد لغة الكتاب معقدة إلى حد ما، خاصةً أن دونو يستخدم لغة فلسفية أحيانًا تتطلب من القارئ معرفة سابقة ببعض المصطلحات والأفكار. كما أن تركيز الكتاب على نقد المجتمع دون تقديم حلول عملية قد يشعر بعض القراء باليأس أو الإحباط، حيث أن دونو يعرض الواقع بتشاؤم أحيانًا.
يعد كتاب نظام التفاهة مرجعًا أساسيًا لفهم التغيرات التي طرأت على المجتمع الحديث، وتحولاته التي دفعت بالفكر العميق والإبداع إلى الهامش، مفسحةً المجال للتفاهة والسطحية. يقدم دونو دعوة ملحة لنا كأفراد لإعادة التفكير في قيمنا، ومحاولة رفض هذا النظام بكل الوسائل المتاحة. إنه كتاب يوقظ الحس النقدي في القارئ ويشجعه على السعي لبناء مجتمع يُعلي من شأن الجودة، الأصالة، والقيمة الحقيقية.