الأحد. نوفمبر 17th, 2024

التقديم

لطالما لعبت الخطط والتكتيكات العسكرية منذ القدم دورا محوريا في رسم وجهة العالم فالتكتيك العسكري هو عبارة عن جملة من المعارك وصياغة مسارات الحروب عبر جملة من الاستراتيجيات المرتكزة على مزيج من القوة العسكرية والحيل حتى باتت الحروب تكشف عن “شيطان الإنس” لما في داخله من شرور وحب لسفك الدماء والتفنن في القتل الجماعي… فكانت فن تخطيط وخداع في سبيل النصر والمجد وصولا الى فن تحقيق المصالح عسكرية كانت سياسية او اقتصادية لتنتقل من ساحات القتال ونظريات الخداع والمكر الى استراتيجيات شاملة لتحقيق النفوذ والسيطرة وتغيير وجهة العالم وخاصة السيطرة على العالم والهيمنة على ثرواته.

غير أن عصرنا اليوم قد اخرج كل مفاهيم الصراع عن ابعاده الطبيعية المتعارف عليها عصر تحول فيه العالم الى قرية تعج بالكيانات والاختلافات وتحتدم فيه مختلف تمظهرات الصراع والقتال والبشاعة بإستخدام آليات الفتك والإبادة الجماعية والتهجير القسري… وكأن بالعالم قد دخل منذ الحرب العالمية الثانية في دوامة من عبثية العلاقات الدولية المحكومة بالخداع والسيطرة والهيمنة والأطماع الغير محدودة و تشكلات جيوسياسية لا نهاية لها ولا محرك لها سوى المصلحة والأطماع التي ليست لها نهاية ولا حدود وبسط اليد العليا على العالم كله فالصراع اليوم على من يسيطر على الكرة الأرضية ومن يجلس على رأس طاولة العالم….

ولعل هذه التشكلات والمشاهد المحتدمة قد قوضت بالفعل منذ زمن مركزية الأخلاقويات والثوابت القانونية الجامدة أمام جموح الدول وجنون السلطة لديها بحق أو دون حق فلا دين لها سوى السيطرة ولا لغة سوى التصفية ولا سلاح تملكه غير القتل والخداع والحصار والتجويع وإستخدام أسلحة محرّمة دوليا…

هذا ما يطلق عليه إسم إستراتجيا أو استراتيجيات، لكنها قد جاوزت مفاهيم الحقوق والأنسنة والأخلاقي وغير الأخلاقي بل وقامت بتعرية قبح الواقع وبشاعة الوهم العالمي وكلام الحق والواجب والخير والإنسانية الذي أصبح أبخس ما يكون سعرا في سوق الوهم الدولي لقد أصبحنا نعيش عالم اللاّأخلاق واللاّمعاير عالم تحكمه المصلحة والبشاعة وعالم التفاهة وعالم “شياطين الإنس”… هذا هو عالمنا اليوم والذي يترأّس طاولة العالم هو مريض نفسي لا يحمل ذرّة إنسانية ولا أخلاق…

ولربما يكون مفهوم “خطة الجنرالات” كأحد الأمثلة البارزة على دنآة والمارقين في العالم المعاصر لجينرلات “اللاّأخلاق” العالم المعاصر.

ففي غزة تتجلى معالم هذه الخطة كاستراتيجية معقدة تجمع بين القوة العسكرية والحصار الشامل مما يستدعي طرح تساؤلات عديدة حول الأهداف الحقيقية لهذه الخطط وطبيعتها التي باتت واضحة للعالم… والذي لا زال متمسكا بقيمه الشكلية أعمى مسلوب الحرية، في الوقوف الى جانب الطرف “الشيطاني والشرير” من العالم متناسيا أنّ الحق والحرية والشرق الإنساني هي فلسطين التي كانت ولازالت وستبقى ارض الأنبياء والرسل ومسرى الرسول والأرض المقدّسة والتي كانت ولا تزال تقدّم القربان من أجل الإنسانية جمعاء وهي من ستكون سببا في حرية البشرية جمعاء… وكون إسرائيل ماهي الاّ قطعة من احجية السياسة العالمية الملطخة بدماء الشعوب…

ماهي أبرز ملامح وتطبيقات خطّة الجنرالات على أرض الواقع في غزّة ومنطقة الشرق الأوسط؟

وما هي مختلف التحديات المترتبة عن هذه الخطة ؟ 

ماهي خطة الجنرالات 

خطة الجنرالات او “نظرية الجنرالات” هي خطة عسكرية اقترحها الجنرال السابق في الجيش الإسرائيلي غيورا ايلاند على بنيامين نتنياهو وتبناها عدد من جنرالات الجيش لذلك أطلق عليها هذا الاسم.

 تم وضعها في سبتمبر الماضي بهدف تهجير سكان غزة قسرا وذلك بفرض حصار كامل على المنطقة بما في ذلك منع دخول المساعدات الإنسانية فضلا عن محاصرة القطاع وتحويله الى منطقة عسكرية مغلقة بهدف التضييق على المقاومة.

ملامح خطة الجنرالات

  • الردع العسكري

حيث تعتمد هذه الخطة على استخدام القوة العسكرية لضمان ردع المقاومة الفلسطينية مثل حماس والجهاد الإسلامي وحيث يتركز هذا الردع على شن غارات جوية وعمليات برية وعمليات قصف تهدف الى اضعاف قدرات المقاومة وتشتيتها عن هدفها

  • الضغط الاقتصادي و السياسي

وحيث تركز هذه النقطة من الخطة على فرض حصار اقتصادي وسياسي على قطاع غزة بهدف تقليص مصادر التموين والتمويل واستغلال المدنيين كدرع لسياسة التجويع هذه بغرض اضعاف الدعم الشعبي للمقاومة.

  • الهجمات الاستباقية

من بين استراتيجيات خطة الجنرالات تنفيذ هجمات استباقية ضد أهداف محددة تعتبرها إسرائيل تهديدا مباشرا لها مثل منصات الصواريخ والأنفاق الهجومية.

وقد مثلت هذه النقاط الثلاث أبرز ما تتركز عليه استراتيجية الجنرالات كخطة لتحقيق نصر في غزة… ولكن هذه الاستراتيجيات لم تحقق الى الان…

تطبيق خطة الجنرالات في غزة

دخلت إسرائيل في حالة من الهستيريا الهجومية اللاعقلانية في حربها على غزة ولعله ما كشف نيتها الانتقامية عبر صب جمام غضبها على المدنيين العزل الأطفال والخدج والنساء والشيوخ شبابا وكهولا وصحفيين ومنع الصحافة الأجنبية من الدخول الى غزّة حتى لا يرى العالم بشاعة جرائمها، وحتى القوات الأممية لم تسلم من جرائمها كمدارس الأنوروا  واليونيفيل…  

جنون الانتقام الذي بدأ بمجازر يومية لم تنتهي الى حين قراءتك لهذا المقال انتهاكات وقتل وتعد على كل الأماكن والأشخاص حيث أن إسرائيل قد كشفت لكل العالم عن عبثية القانون الدولي وهذا المجتمع العالمي كله الذي يكيل بمكيالين ذو المعايير المزدوجة والاتجاهات التي لا تخدم الا مصلحتها وأصبحت الأمم المتحدة أضعف منظمة توشك على الإنهيار وهذا يذكرنا بسقوط عصبة الأمم في الحرب العالمية الثانية وكذلك بدأت الشرعية الدولية والقانون الدولي محلّ تشكيك بل أنه هناك من يقول بأن الأمم المتحدة قد فشلت في أوّل إمتحان جدّي ولا يمكن التعويل عليها ولا حتى الرجوع إليها…

عام من الإبادة والتهجير القصري والاعتقالات والتعذيب والاغتصاب والحرق والتجويع والتدمير والتخريب والتدنيس والتنكيل… والعالم عاجز مكبلا أمام الكيان المارق كيان الاحتلال الصهيوني…. أكثر من عام من مجزرة المعمداني الى مخيم جباليا وحرق المدنيين أحياء وخطف الأطفال واغتصاب المعتقلين وغيرها من الجوائم البشعة، كشفت عن هون القانون والحقوق التي يتشدق بها الغرب ويتفاخر وعن حقيقة المحتل كمغتصب قاتل وحقيقة المجتمع الدولي ومحاكمه العميلة الشكلية التي لا دور ولا رأي لها أمام رغبات مالكيها ومموليها.

بعد أن جاوزنا عاما من الحصار والتضييق والتعذيب دون تحقيق انتصار فعلي للمحتل في غزة يرى الكثيرون أن هذه الخطة هي تعبير صريح عن فشل إسرائيل

“خطة الجنرالات” هي دليل على فشل إسرائيل في إيجاد حل سياسي لا يمكن القضاء على مقاومة شعب بالقنابل والحصار كلما زادت إسرائيل من ضغطها العسكري كلما زادت المقاومة” عاموس هرئيل (محلل عسكري في صحيفة هارتس الإسرائيلية)

“خطة الجنرالات الإسرائيلية تجاه غزة تظهر فشلا أخلاقيا واستراتيجيا الاستمرار في معاقبة المدنيين والحصار سيؤدي الى خلق أجيال جديدة من الكراهية والمقاومة” (نورمان فينكلشتاين اكاديمي و ناشط أمريكي)

صانع خطة الجنرالات “عندما يعلن مؤسسها عن فشلها”

حدد غيورا ايلاند الرئيس الأسبق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي والمنظر الأول ل”خطة الجنرالات” أن هذه العملية العسكرية الاستراتيجية قد فقدت فعاليتها بعد مرور عام من الحصار والإبادة والترهيب دون تحقيق انتصار يذكر مؤكدا على ضرورة انهاء الحرب متطرقا الى أربع أسباب رئيسية تجعل من قرار إيقاف الحرب خيارا لا بديل له مؤكدا ان استمرارها لن يغير الواقع هناك بل سيؤدي الى موت الأسرى وقتل مزيد من الجنود. وحيث يمثل عامل الوقت جيوسياسيا معطى مهما في تحديد الربح ورصد الخسائر ولعل هذا العامل هو الأهم في عملية قراءة وتحليل مدى عجز إسرائيل عن تحقيق تقدم او عن احباط معنويات الفلسطينيين او زرع بذور الشك بينهم والمقاومة….

  • خسائر الجيش

يرى غيورا ان الجيش المحتل قد تكبد خسائر كبيرة في العناصر والسلاح بفعل العبء النفسي والضغط المجنون عليهم واجبارهم على القتال وحيث يعاني عدد كبير من الجنود من مشاكل نفسية معقدة أوصلت عددا منهم الى الإنتحار فضلا عن قتالهم في أوساط طبيعية غريبة عنهم.

 فالمحتل لا يدرك الأرض كصاحبها ولعلّ هذا المعطى يمثل نقطة الضعف الأبرز للجيش الإسرائيلي الذي يظهر ضعيفا في المواجهات المباشرة الميدانية مع عناصر المقاومة…

 فأن تربح حربا ليس شرطا ان تكون قويا بالترسانة العسكرية والأسلحة بل ملما بجغرافية المجال ومفاتيحه… وهو ما تفوقت فيه المقاومة حتما عبر ضرب النقاط الرمزية والنفسية لدى الاحتلال وهزّ ثقة شعبه بقياداته وادارته فلربما سلاح الترهيب التي انتهجته همجية الاحتلال عبر قصف المدنيين والتضييق عليهم قد زاد من صمود الفلسطينيين وهز ثقة الكيان المجرم بنفسه فزادت همجيته وأوغل في الوجشية…

  • العبؤ الاقتصادي

كما يرى ايلاند كذلك أن هذه الحرب مكلفة وبشدة ذات خسائر دون ربح مادي او معنوي حيث تقدر الخسارة في كل يوم من القتال بحوالي 132 مليون دولار فضلا عن تدني التصنيف الاقتصادي العالمي وانهيار استقرار الاقتصاد بكل اركانه

  • المطالب الدولية

“العالم كله يصرخ من اجل انهاء الحرب في غزة ” وأضاف “هناك فهم أكبر للعالم لماذا تقاتل إسرائيل في لبنان ولكن لا أحد يفهم ما نريد تحقيقه في غزة”

في الواقع يمكن اعتبار أكبر خسارة لإسرائيل منذ 7 أكتوبر هي الدعم الدولي فكل من لم يكن لديه أدني فكرة او حتى علاقة بالقضية الفلسطينية أصبح يفهم جيدا موقع كل طرف وحقيقته وقصته الا القانون الدولي الذي لا يزال جامدا لا قدرة له ولا دور دون اذن مموليه وواضعيه ليكشف عن محدوديته ودوره المسير الخادم لمصالح الكبار ولا فعالية له أمام رغباتها.

  • واقع لن يتغير

صمود الفلسطينيين وجنون الإسرائيليين الممنهج بغرض التصفية العرقية سيجعل من هذه الحرب ذات قوس مفتوح لا نهاية له…

الخلاصة:

لا شك ان حرب غزة قد غيرت احداثيات العالم كله بل وقلبت موازين وتعريفات الصمود والمقاومة وقوضت مختلف الاستراتيجيات والتوقعات والتكيتيكات الحربيية العصرية الحسابية والدقيقة… فلا دقة غلبت تحركات المقاومة ولا قوة اضعفت صمود أصحاب الأرض في أرضهم رغم قذارة الخطط والغايات وهشاشة النظام العالمي الذي يكيل بمكيالين ولا يعترف سوى بالقتل والترهيب متنكرا في زي الاخلاقوية القذر…

 درس قد قوض التوقعات وهدم الحسابات وجعل كيانا مدعوما من قوى العالم أضعف من أن يخترق بـالسلاح الأمريكي الغربي جدار المقاومة وهمة أصحاب الأرض… انه كيان مارق “بيته أوهن من بيت العنكبوت”  

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *