الأثنين. ديسمبر 23rd, 2024

التقديم

يُستخدم تعبير “الدولة العميقة” اليوم بشكل متزايد في المجال السياسي، وينتقل تدريجياً من الصحافة إلى اللغة السياسية المقبولة عموماً، وفي الوقت نفسه، أصبح المصطلح عينه غير واضح وبدأ الجميع في فهمه بشكل مختلف، ومن هنا وجدنا ضرورة إلقاء نظرة فاحصة على الظاهرة التي توصف بـ”الدولة العميقة”، حيث بات من المهم جداً تتبع متى وأين يتم استخدام هذا المفهوم.

بداية، ظهرت هذه العبارة للمرة الأولى في السياسة التركية خلال تسعينيات القرن العشرين ووصفت حينها وضعاً محدداً للغاية في هذا البلد، وفي اللغة التركية، فإنّ الدولة العميقة هي derin devlet”” وهذا أمر مهم، لأن جميع التطبيقات اللاحقة لهذا المفهوم ترتبط بطريقة أو بأخرى بالمعنى الأصلي للصيغة، والتي ظهرت لأول مرة في تركيا.

في تركيا، بدءاً من كمال أتاتورك، ظهرت حركة سياسية وأيديولوجية محددة تماما وهي “الكمالية”، وفي مركزها توجد “عبادة” كمال أتاتورك نفسه (حرفياً، “أبو الأتراك”)، والعلمانية الصارمة (رفض إعطاء العامل الديني ليس كطابع سياسي فقط، بل اجتماعي أيضا)، والقومية (بما في ذلك التركيز على السيادة). ووحدة جميع مواطني تركيا المتعددة الأعراق)، والحداثة، والأوروبية، والتقدمية، فكانت الكمالية في كثير من النواحي نقيض مباشر للنظرة العالمية والثقافة التي هيمنت على الإمبراطورية العثمانية الدينية والتقليدية.

ومنذ إنشاء تركيا، كانت الكمالية “ولا تزال في العديد من النواحي” هي الرمز السائد في السياسة التركية الحديثة، وعلى أساس هذه الأفكار قامت الدولة التركية على أنقاض الإمبراطورية العثمانية، وسيطرت الكمالية بشكل علني في عهد كمال نفسه، وبعد ذلك تم نقل هذه العصا إلى ورثته السياسيين، وتضمنت الأيديولوجية الكمالية ديمقراطية حزبية على النمط الأوروبي، ولكن في الوقت نفسه، تركزت السلطة الحقيقية في أيدي القيادة العسكرية للبلاد – وفي المقام الأول مجلس الأمن القومي – وبعد وفاة أتاتورك، أصبحت النخبة العسكرية هي الوصية على العقيدة الأيديولوجية الكمالية.

وفي الواقع، تم إنشاء جهاز الأمن القومي التركي في عام 1960 بعد الانقلاب، ونما دوره بشكل ملحوظ بعد انقلاب آخر في عام 1980. وتجدر الإشارة هنا إلى أن العديد من الرتب العليا في الجيش التركي وأجهزة المخابرات هم أعضاء في المحافل الماسونية، وهكذا، كانت الكمالية متشابكة بشكل وثيق مع الماسونية العسكرية، وكلما انحرفت الديمقراطية التركية بعيداً عن الكمالية ـ سواء إلى اليمين أو اليسار ـ قلبت المؤسسة العسكرية التركية نتائج الانتخابات وبدأت في القمع.

لكن يجدر التنويه إلى حقيقة أن مصطلح “derin devlet” لم يظهر في تركيا سوى في التسعينيات من القرن العشرين، وفي تلك اللحظة بدأ ينمو الإسلام السياسي بشكل كبير في تركيا، وهنا، ولأول مرة في تاريخ تركيا، تظهر المواجهة بين أيديولوجية “الدولة العميقة” و”الديمقراطية السياسية”. علاوة على ذلك، نشأت المشكلة على وجه التحديد عندما اتجه إسلاميو نجم الدين أربكان وأتباعه وخليفته رجب أردوغان بشكل أساسي إلى إيديولوجية سياسية بديلة تتحدى الكمالية بشكل مباشر، وهذا التحدي ينطبق على كل شيء، بدءاً من الإسلام بدلاً من العلمانية، والتواصل مع الشرق أكثر من الغرب، والتضامن الإسلامي بدلاً من القومية التركية، وبشكل عام، السلفية والعثمانية الجديدة بدلاً من الكمالية، كما شمل ذلك أيضاً الخطاب المناهض للماسونية، وهو ما يميز أربكان بشكل أساسي، فبدلاً من الجمعيات السرية الماسونية التابعة للنخبة العسكرية العلمانية، تم التركيز على الطرق الصوفية التقليدية ومنظمات الشبكات الإسلامية المعتدلة – مثل حضانة فتح الله غولن.

وهنا ظهرت فكرة “الدولة العميقة” كصورة وصفية للنواة الكمالية العسكرية السياسية في تركيا، التي رأت نفسها فوق الديمقراطية السياسية، وألغت بقرارها نتائج الانتخابات، واعتقلت شخصيات سياسية ودينية، أي أنها وضعت نفسها فوق الإجراءات القانونية للسياسة ذات الطابع الأوروبي، حيث لا يمكن أن تنجح الديمقراطية الانتخابية إلا عندما تتوافق مع سياسة الكماليين العسكريين، ومن خلال التراجع عن ذلك على مسافة حرجة، كما في حالة الإسلاميين، الذين كانوا يعتمدون على أيديولوجية مختلفة تماماً، تذكرنا بالعثمانية أكثر من الكمالية، فإن الحزب الذي فاز في الانتخابات وترأس الحكومة يمكن أن يتم تشتيته دون أي تفسير.. فضلاً عن ذلك فإن “تعليق الديمقراطية” في مثل هذه الحالات لم يكن له أساس دستوري صارم ـ فقد تصرف ضباط عسكريون غير منتخبين انطلاقاً من “النفعية الثورية” من أجل إنقاذ تركيا الكمالية – وفي وقت لاحق، بدأ أردوغان حرباً حقيقية مع “الدولة العميقة” في تركيا، بلغت ذروتها في قضية “أرغينيكون”، التي بدأت في عام 2007، عندما تم (بحجة واهية التحضير للانقلاب) اعتقال القيادة العسكرية التركية بأكملها تقريباً.

ومع ذلك، في وقت لاحق، اختلف أردوغان مع شريكه السابق فتح الله غولن، الذي اندمج بعمق في أجهزة المخابرات الغربية، وأعاد العديد من أعضاء الدولة العميقة إلى مكانتهم، وأبرم تحالفاً عملياً معهم – في المقام الأول على أساس القومية التركية المشتركة – فتم تخفيف وتأجيل النقاش حول العلمانية – وخاصة بعد محاولة أتباع غولن الفاشلة للإطاحة بأردوغان في عام 2016،  ثم بدأ يطلق على أردوغان نفسه لقب “الكمالي الأخضر”، ولكن رغم ذلك، وخلال المواجهة الصعبة مع أردوغان، أضعفت مواقف الدولة العميقة في تركيا بشكل كبير، وأصبحت أيديولوجية الكمالية غير واضحة (رغم أنها ظلت قائمة).

الملامح الرئيسية للدولة العميقة

يمكن القول بأن “الدولة العميقة” يمكن أن توجد ويكون لها معنى في مكانها، كما يمكن استخلاص عدد من الاستنتاجات العامة من هذه المؤامرة للتاريخ السياسي لتركيا الحديثة وفق ما يلي:

وجود نظام انتخابي ديمقراطي.

فوق هذا النظام توجد سلطة عسكرية سياسية غير منتخبة، تجمعها أيديولوجية محددة للغاية (لا تعتمد على انتصار حزب أو آخر).

هناك جمعية سرية (على سبيل المثال، من النوع الماسوني)، توحد النخبة العسكرية والسياسية.

وهنا يصبح العمق محسوساً عندما تبدأ التناقضات الواضحة بين المعايير الرسمية للديمقراطية وقوة هذه النخبة (وإلا فإن وجود الدولة العميقة ليس واضحًا)، ويمكن القول بأنّ الدولة العميقة غير ممكنة إلا في ظل ديمقراطية ليبرالية، حتى لو كانت اسمية، فحين نتعامل مع أنظمة سياسية شمولية علنية ـ كما هي الحال مع الفاشية أو الشيوعية ـ فلا تكون هناك حاجة إلى دولة عميقة، وهنا، يتم الاعتراف علناً بالمجموعة ذات الأيديولوجية الصارمة باعتبارها السلطة العليا، التي تضع نفسها فوق القوانين الرسمية، ويؤكد حكم الحزب الواحد هذا النموذج من الحكم، ولا يتوقع وجود معارضة أيديولوجية أو سياسية، ولكن فقط في المجتمعات الديمقراطية، (حيث من المفترض ألا تكون هناك أيديولوجية حاكمة)، تظهر “الدولة العميقة” كظاهرة “الشمولية الخفية”، التي لا ترفض الديمقراطية والنظام التعددي الحزبي بشكل عام فحسب، بل تديرهما وتتلاعب بهما في أقصى حالاتها.

وفي تقدير خاص، فأن الشيوعيين والفاشيين يدركون علانية الحاجة إلى أيديولوجية حاكمة، وهذا ما يجعل قوتهم وسلطتهم السياسية الأيديولوجية مباشرة وصريحة وفقا لكارل شميت، أما الليبراليون فينكرون الإيديولوجية، لكنهم يمتلكونها، وهذا يعني أنهم يؤثرون على العمليات السياسية القائمة على الليبرالية كعقيدة، ولكن بشكل ضمني فقط (أي من خلال سلطة غير مباشرة). بمعنى أن الطابع الشمولي والأيديولوجي الليبرالي يظهر بشكل علني فقط عندما يكون هناك تناقض بينها وبين العمليات السياسية الديمقراطية، فالمجتمعـات الليبرالية ليست نفسها المجتمعات الديمقراطية، لأن الديمقراطية في بعض الحالات قد لا تكون ليبرالية على الإطلاق.

وفي تركيا، حيث تم استعارة الديمقراطية الليبرالية من الغرب ولم تتلاءم بشكل جيد مع علم النفس السياسي والاجتماعي للمجتمع، كان من السهل اكتشاف “الدولة العميقة” وإعطائها اسمها. وفي أنظمة ديمقراطية أخرى، ظهر وجود هذه السلطة الأيديولوجية الشمولية، غير الشرعية و”غير الموجودة” رسمياً، فيما بعد، ولكن المثال التركي له أهمية كبيرة بالنسبة لهذه الظاهرة نفسها، فكل شيء هنا واضح وضوح الشمس.

ترامب واكتشاف الدولة العميقة في الولايات المتحدة الأمريكية

والآن دعونا ننتبه إلى أن مصطلح “الدولة العميقة” في الغرب بدأ يظهر في خطابات الصحفيين والمحللين والسياسيين في الولايات المتحدة خلال رئاسة دونالد ترامب، ومرة أخرى، يبدو أنّ السياق التاريخي أمر بالغ الأهمية، حيث بدأ أنصار ترامب، مثل ستيف بانون وآخرون، يقولون بإن ترامب، (الذي يتمتع بجميع الحقوق التي يكفلها الدستور لتحديد مسار السياسة الأمريكية، عند انتخابه رئيساً)، يواجه عقبات غير متوقعة – خلال ممارسة حقوقه وصلاحياته – ولا يمكن اختزالها فقط في معارضة الحزب الديمقراطي أو الجمود البيروقراطي.

وبشكل تدريجي، ومع تقدم هذه المقاومة، بدأ ترامب وأنصاره، الترامبيون، في الاعتراف بأنفسهم باعتبارهم حاملين ليس فقط للأجندة الجمهورية التقليدية للسياسيين والرؤساء السابقين لهذا الحزب، بل وأكثر من ذلك، فإن تركيزهم على القيم التقليدية وانتقاد خط العولمة ضرب على الوتر الحساس ليس فقط لدى المعارضين السياسيين المباشرين و”التقدميين” والحزب الديمقراطي، ولكن أثرت تلك السياسات أيضاً على بعض السلطات غير المرئية وغير الدستورية، القادرة على التأثير بشكل متماسك وهادف على جميع العمليات الرئيسية في السياسة الأمريكية – في مجال التمويل والأعمال التجارية الكبرى والإعلام وأجهزة المخابرات والقضاء وأهم المؤسسات الثقافية والمؤسسات التعليمية الرئيسية وما إلى ذلك.

وكان يبدو أن تصرفات جهاز الدولة ككل يجب أن تخضع لمسار وقرارات رئيس الولايات المتحدة المنتخب بشكل قانوني، ولكن ما اتضح جلياً هو أن الأمر ليس كذلك على الإطلاق، وأن عمليات لا يمكن السيطرة عليها تجري خارج نطاق الرئيس ترامب وبشكل مستقل تماماً عنه وعلى أعلى مستوى من “قوة الظل”، وهكذا تم اكتشاف “الدولة العميقة” في الولايات المتحدة نفسها.

وفي الولايات المتحدة، كما هي الحال في تركيا، ليس هناك شك في وجود ديمقراطية ليبرالية، ولكن وجود سلطة عسكرية سياسية غير منتخبة، مصحوبة بأيديولوجية محددة للغاية (مستقلة عن انتصار هذا الحزب أو ذاك) وجزء من نوع ما من المجتمع السري (على سبيل المثال، النوع الماسوني)، لم يكن واضحاً تماماً بالنسبة لـ الأميركيين، ولذلك، أصبح الحديث عن “الدولة العميقة” في تلك الفترة بمثابة وحي للكثيرين، ليتحول من “نظرية المؤامرة” إلى واقع سياسي واضح.

نعم، بالطبع، إن اغتيال جون إف كينيدي الذي لم يتم حله حتى الآن، والقضاء المحتمل على أعضاء آخرين في هذه العائلة، بالإضافة إلى العديد من التناقضات في أحداث 11 سبتمبر المأساوية، أضف إلى ذلك عدد من الأسرار الأمريكية الأخرى التي لم يتم حلها بعد، بالتالي فإن هذه السياسة، جعلت الأمريكيين يشككون في وجود نوع من “القوة السرية” في أمريكا، واقترحت “نظريات المؤامرة” المنتشرة على نطاق واسع المرشحين الأكثر روعة لهذا الدور – من الشيوعيين السريين إلى الزواحف والأنونوك – ولكن تاريخ رئاسة ترامب، وما لا يقل عن اضطهاده بعد الخسارة أمام بايدن ومحاولتي اغتيال بالفعل خلال الحملة الانتخابية لعام 2024، يجبرنا على تناول موضوع “الدولة العميقة” في الولايات المتحدة بمنتهى الجدية، فالآن لا يمكنك التخلص من “الدولة العميقة” بهذه السهولة، فهي موجودة بالتأكيد، وهي فاعلة، وهي نشيطة، و… تحكم.

مجلس العلاقات الخارجية: نحو إنشاء حكومة عالمية

بحثا عن تفسير لهذه الظاهرة، يجدر بنا أولا التوجه إلى تلك المنظمات السياسية في الولايات المتحدة في القرن العشرين، والتي كانت الأكثر إيديولوجية وحاولت التصرف في مساحة فوق الحزبية، وإذا بحثنا عن جوهر الدولة العميقة بين المؤسسة العسكرية، ووكالات الاستخبارات، وحيتان المال في وول ستريت، وأباطرة التكنولوجيا الفائقة، وما إلى ذلك، فمن غير المرجح أن نحصل على نتيجة مرضية، فكل شيء هناك فردي وغامض للغاية، وبادئ ذي بدء، نحن بحاجة إلى الاهتمام بالأيديولوجية.

وإذا وضعنا نظريات المؤامرة جانباً، هناك هيئتان مناسبتان لهذا الدور – مجلس العلاقات الخارجية (Council on Foreign Relations)، الذي تأسس في العشرينيات من القرن العشرين على يد أشخاص ذوي تفكير مماثل للرئيس وودرو ويلسون، وهو مؤيد قوي للعولمة الديمقراطية، وبعد ذلك بكثير حركة المحافظين الجدد الأمريكيين الذين ظهروا من بين التروتسكيين (الهامشيين ذات يوم) واكتسبوا تدريجيًا نفوذًا كبيرًا في الولايات المتحدة.

ويعتبر كل من “مجلس العلاقات الخارجية” و”المحافظين الجدد” مستقلين عن أي حزب واحد، ولقد وضعوا لأنفسهم هدف توجيه المسار الاستراتيجي للسياسة الأمريكية ككل، وذلك بغض النظر عن الحزب الذي سيهيمن حاليا، فضلاً عن ذلك فإن كلاً من هاتين السلطتين تتمتعان بإيديولوجية واضحة ومنظمة ـ العولمة الليبرالية اليسارية – في حالة مجلس العلاقات الخارجية، و -مهاجمة الهيمنة الأميركية – في حالة المحافظين الجدد، كما يمكن اعتبار مجلس العلاقات الخارجية من أنصار العولمة اليساريين المشروطين، والمحافظين الجدد من أنصار العولمة اليمينيين.

ومنذ بداية إنشاء مجلس العلاقات الخارجية، حددت هذه الشبكة من السياسيين والخبراء والمثقفين وممثلي الشركات عبر الوطنية مسارًا للانتقال من الولايات المتحدة كدولة قومية إلى “إمبراطورية” ديمقراطية عالمية، وفي مواجهة الانعزاليين، طرح مجلس العلاقات الخارجية فرضية مفادها أن مصير الولايات المتحدة هو جعل العالم كله ليبراليًا وديمقراطيًا،  وتم وضع مُثُل وقيم الديمقراطية الليبرالية والرأسمالية والفردية هنا فوق المصالح الوطنية.

وكان هذا الهيكل هو الذي شارك تاريخياً طوال القرن العشرين – مع بعض الانقطاع في الحرب العالمية الثانية – في إنشاء منظمات فوق وطنية – أولاً عصبة الأمم، ثم الأمم المتحدة، ونادي بيلدربيرج، واللجنة الثلاثية، وما إلى ذلك، وكانت المهمة تتلخص في إنشاء نخبة ليبرالية عالمية موحدة تشترك في أيديولوجية العولمة في كل شيء – في الفلسفة والثقافة والعلوم والاقتصاد والسياسة، وما إلى ذلك.

وكانت جميع أنشطة أنصار العولمة من مجلس العلاقات الخارجية تهدف إلى تشكيل حكومة عالمية واحدة، مما يعني ضمناً الاضمحلال التدريجي للدول الوطنية ونقل السلطة من قبل الكيانات ذات السيادة السابقة إلى أيدي الأوليغارشية العالمية التي تتكون من الليبراليين في العالم، وهي نخب نشأت على أنماط الغرب.

كما قام مجلس العلاقات الخارجية، من خلال شبكاته الأوروبية، بدور نشط في إنشاء الاتحاد الأوروبي (خطوة ملموسة نحو حكومة عالمية)، وقد لعب ممثلوها، وفي المقام الأول هنري كيسنجر – الزعيم الفكري الدائم لهذه المنظمة – دوراً رئيسياً في دمج الصين في السوق العالمية، وكانت هذه خطوة فعالة لإضعاف المعسكر الاشتراكي، فساهمت نفس السلطة بنشاط في الترويج لنظرية التقارب وتمكنت من التأثير على القيادة السوفيتية الراحلة – وصولاً إلى غورباتشوف – فكان “المجتمع العالمي تحت السيطرة” وفق ما كتبه الأيديولوجيون السوفييت الراحلون، الذين وقعوا تحت تأثير التنويم المغناطيسي الجيوسياسي من مجلس العلاقات الخارجية، تحت إملاء أنصار العولمة من مجلس العلاقات الخارجية.

وعليه فإن مجلس العلاقات الخارجية في الولايات المتحدة هو هيكل غير حزبي تمامًا ويوحد الديمقراطيين، الذين يعتبرون أقرب إليه إلى حد ما من الجمهوريين. وفي الواقع، هذا هو المقر العام للعولمة، وما المبادرات الأوروبية المماثلة – مثل منتدى دافوس لكلاوس شواب – سوى فروع لها. وعشية انهيار الاتحاد السوفييتي، أسس مجلس العلاقات الخارجية فرعه في موسكو، في معهد أبحاث النظام التابع للأكاديمي جفيشياني، حيث ظهرت نواة الليبراليين الروس في التسعينيات والموجة الأولى من الأوليغارشية ذات الدوافع الأيديولوجية.

ومن الواضح أن ترامب واجه على وجه التحديد هذه السلطة، التي تم تقديمها في الولايات المتحدة نفسها وفي العالم كمنصة غير ضارة ومرموقة لتبادل آراء الخبراء “المستقلين”، ولكن في الواقع هذا مقر أيديولوجي حقيقي، وترامب، بأجندته المحافظة القديمة، وتأكيده على المصالح الأميركية وانتقاده للعولمة، دخل في تناقض واضح وصريح معها. حيث إن ترامب ليس سوى رئيس للولايات المتحدة لفترة قصيرة، ويتمتع مجلس العلاقات الخارجية بتاريخ يمتد لقرن من الزمان في تحديد مسار السياسة الخارجية الأمريكية، وبطبيعة الحال، خلال المائة عام من وجوده في السلطة وفي السلطة، شكل مجلس العلاقات الخارجية شبكة واسعة من النفوذ، ونشر أفكاره بين العسكريين والمسؤولين وأهل الثقافة والفن، ولكن قبل كل شيء في الجامعات الأمريكية، التي أصبحت تدريجياً أيديولوجية أكثر فأكثر.

ورسميا، لا تعترف الولايات المتحدة بأي هيمنة أيديولوجية، ولكن شبكة مجلس العلاقات الخارجية، على العكس من ذلك، فهي شبكة أيديولوجية للغاية، حيث إن النصر الكوكبي للديمقراطية، وإنشاء حكومة عالمية، والانتصار الكامل للفردية والسياسة الجنسانية هي الأهداف العليا التي لا يمكن تغييرها أو الانحراف عنها. في المقابل فإنّ القومية وأمريكا أولاً، وتهديدات ترامب بـ “تجفيف مستنقع العولمة” – كان هذا تحديا حقيقيا لهذه السلطة، حارسة قواعد الليبرالية الشمولية (مثل أي أيديولوجية).

قتل بوتين وترامب

هل يمكن اعتبار مجلس العلاقات الخارجية جمعية سرية؟

 بالكاد، يفضل السرية، ويتصرف بشكل علني بشكل عام، لذلك، مباشرة بعد بدء مجلس العلاقات الخارجية، ناقش قادة مجلس العلاقات الخارجية (ريتشارد هاس، فيونا هيل، سيليشا فالاندر) مباشرة مدى استصواب قتل الرئيس بوتين (تم نشر نسخة مطبوعة من المناقشة على الموقع الرسمي لمجلس العلاقات الخارجية).

 وهنا الدولة الأمريكية العميقة، على عكس الدولة التركية، تفكر في نفسها عالميًا، لذا فإن ما يحدث في روسيا أو الصين يبدو “شأنًا داخليًا” لأولئك الذين يعتبرون أنفسهم الحكومة العالمية، حسنًا، يعد قتل ترامب أمرًا سهلاً بشكل عام إذا فشلت في سجنه أو إزاحته من الانتخابات.

ومن الجدير بالذكر أن المحافل الماسونية لعبت دورًا حيويًا في النظام السياسي الأمريكي منذ الحرب الأهلية الأمريكية، ولذلك، تتشابك الشبكات الماسونية مع مجلس العلاقات الخارجية وتكون بمثابة سلطة تجنيد لها. واليوم، لا يتعين على أنصار العولمة الليبراليين أن يختبئوا، كما أن برامجهم مقبولة بالكامل من قبل الولايات المتحدة والغرب الجماعي، ومع تقوية “القوة السرية”، فإنها تتوقف تدريجياً عن أن تكون سراً. وبالتالي ما كان يجب حمايته في السابق بانضباط الأسرار الماسونية يصبح أجندة عالمية مفتوحة، ولم يستنكف الماسونيون التدمير الجسدي لأعدائهم، لكنهم بالطبع لم يتحدثوا عنه بشكل مباشر، والآن يتحدثون، وهذا هو الفرق الوحيد.

المحافظون الجدد: من التروتسكيين إلى الإمبرياليين

المركز الثاني للدولة العميقة هو المحافظون الجدد، في البداية، كانوا تروتسكيين يكرهون الاتحاد السوفييتي وستالين، لأن ما بني في روسيا (في رأيهم) لم يكن اشتراكية أممية، بل اشتراكية «وطنية»، أي اشتراكية في بلد واحد. لذلك، في رأيهم، لم يتم إنشاء مجتمع اشتراكي كامل، ولم تكن هناك رأسمالية حقيقية، ويعتقد التروتسكيون أن الاشتراكية الحقيقية لن تكون ممكنة إلا بعد أن تصبح الرأسمالية كوكبية وتنتصر في كل مكان، وتمزج بشكل لا رجعة فيه جميع المجموعات العرقية والشعوب والثقافات وتلغي التقاليد والأديان، فقط في وقت لاحق (وليس قبل ذلك) سوف يصل الأمر إلى الثورة العالمية.

لذلك، قرر التروتسكيون “الأميركيون” أنه يجب علينا مساعدة الرأسمالية العالمية والولايات المتحدة بكل الطرق الممكنة كرائد لها، ومحاولة تدمير الاتحاد السوفييتي (ثم روسيا، باعتبارها خليفته)، إلى جانب جميع الدول ذات السيادة، ولا يمكن للاشتراكية أن تكون إلا دولية بحتة، وهو ما يعني أن الولايات المتحدة يجب أن تعزز هيمنتها وتدمر خصومها، وبعد ذلك فقط، عندما يفرض الشمال الغني هيمنته الكاملة على الجنوب الفقير وتسود الرأسمالية الدولية في كل مكان، سيتم توفير المتطلبات الأساسية مكان للانتقال إلى المرحلة التالية من التطور التاريخي.

ولتنفيذ هذه الخطة الشيطانية، اتخذ التروتسكيون الأمريكيون قرارًا استراتيجيًا بالدخول في السياسة الكبيرة، ولكن ليس بشكل مباشر، حيث لم يصوت لهم أحد على الإطلاق في الولايات المتحدة، ولكن من خلال الأحزاب الكبيرة، أولاً من خلال الديمقراطيين، وبعد ذلك، عندما تمكن المتآمرون من السيطرة على الأمر، من خلال الجمهوريين.

ولقد اعترف التروتسكيون علانية بالحاجة إلى الأيديولوجية وكانوا يحتقرون الديمقراطية البرلمانية، معتبرين أنها مجرد غطاء لرأس المال الكبير، لذا، فإنه وإلى جانب مجلس العلاقات الخارجية، تم إعداد نسخة أخرى من الدولة العميقة في الولايات المتحدة، بحيث لم يتمسك المحافظون الجدد بتروتسكيتهم، بل على العكس من ذلك، فقد أغووا العسكريين الأمريكيين الكلاسيكيين والإمبرياليين ومؤيدي الهيمنة العالمية، وكان على ترامب أن يواجه هؤلاء الأشخاص، الذين كانوا قبل ترامب أسيادًا كاملين تقريبًا للحزب الجمهوري.

الديمقراطية هي الدكتاتورية

بمعنى ما، فإن الدولة الأمريكية العميقة ثنائية القطب، أي أن لها قطبين هما:

يساري عولمي (CFR)

يميني عولمي (المحافظون الجدد).

ولكن كلاً من المنظمتين هي منظمة فوق حزبية، ولم يتم اختيارها من قِبَل أي شخص، وتحملان إيديولوجية شمولية شديدة الهوس الاستباقي، وفي كثير من الجوانب، فإنها تتطابق مع بعضها البعض، وتختلف فقط في البلاغة. وكلاهما ضد روسيا في عهد بوتين والصين في عهد شي جين بينغ، وضد التعددية القطبية بشكل عام. وفي داخل الولايات المتحدة، كلاهما لا يقل معارضة لترامب، لأنه وأنصاره يجسدون النسخة القديمة من السياسة الأمريكية، التي لا علاقة لها بالعولمة وتركز على المشاكل الداخلية.

ولكن موقف ترامب يشكل تمرداً حقيقياً ضد النظام، وما لا يقل عن السياسات الإسلامية لأربكان وأردوغان في حالة الكمالية في تركيا، وفيما يلي شرح لسبب ظهور أطروحة “الدولة العميقة” مع رئاسة ترامب، وقد حظي ترامب وخطه بدعم كتلة حرجة من الناخبين الأميركيين، ولكن تبين أن هذا الموقف لا يتوافق مع آراء الدولة العميقة، التي كشفت عن نفسها من خلال البدء في التصرف بقسوة ضد ترامب خارج الإطار القانوني ودوس أعراف الديمقراطية، فـ”الديمقراطية هي نحن”، هذا ما أعلنته الدولة العميقة في الولايات المتحدة، وبدأ العديد من النقاد يتحدثون عن الانقلاب، لذلك، في جوهره، كان حين دخلت حكومة الظل في الولايات المتحدة في صراع مع الواجهة الديمقراطية وبدأت الدكتاتورية تشبه بشكل متزايد الليبرالية والعولمة.

الدولة الأوروبية العميقة

والآن دعونا نلقي نظرة على ما يمكن أن تعنيه أطروحة الدولة العميقة في حالة الدول الأوروبية، ففي الآونة الأخيرة، بدأ الأوروبيون يلاحظون أن شيئاً غير عادي يحدث فيما يتعلق بالديمقراطية في بلدانهم. حيث يصوت السكان وفقًا لتفضيلاتهم، ويدعمون بشكل متزايد مختلف الشعبويين، وفي المقام الأول اليمين، لكن بعض السلطات في الدولة تعارض الفائزين بشدة على الفور، وتخضعهم للقمع، وتشويه سمعتهم وإزاحتهم بالقوة من السلطة، ونرى ذلك في فرنسا بقيادة ماكرون مع حزب مارين لوبان، وفي النمسا مع حزب الحرية، وفي ألمانيا مع حزب البديل من أجل ألمانيا وحزب سارة فاغنكنشت، وفي هولندا مع خيرت فيلدرز، وما إلى ذلك، فقد فازوا بانتخابات ديمقراطية، ولكن بعد ذلك تم عزلهم من السلطة، فهل هذا الوضع مألوف؟ نعم، إنه يذكرنا كثيرًا بتركيا والجيش الكمالي، وهذا يعني أننا نتعامل مع دولة عميقة في أوروبا أيضاً.

ومن الملاحظ على الفور أن هذه السلطة في جميع الدول الأوروبية ليس لها جنسية وتعمل بشكل صارم وفقًا لنفس الأنماط، ولا يتعلق الأمر فقط بالدولة الفرنسية العميقة، والألمانية، والنمساوية، والهولندية، وما إلى ذلك، بل إنها دولة أوروبية عميقة، وهي أيضًا جزء من شبكة عالمية واحدة – يقع مركز هذه الشبكة في الدولة الأمريكية العميقة – في المقام الأول في مجلس العلاقات الخارجية، ولكن هذه الشبكة تغطي أيضًا أوروبا بإحكام، حيث يشكل الليبراليون اليساريون، في تحالف وثيق مع الأوليغارشية الاقتصادية ومثقفي ما بعد الحداثة، الذين يأتون دائمًا تقريبًا من الوسط التروتسكية، كقوة شمولية غير منتخبة ولكنها مملوكة للطبقة الحاكمة الأوروبية وتعرف هذه الفئة على نفسها كجزء من مجتمع أطلنطي واحد، وفي جوهرها، هذه هي نخبة الناتو، ومرة أخرى يمكننا أن نتذكر الجيش التركي، فإن حلف شمال الأطلسي هو الهيكل الداعم للنظام العالمي برمته، أي أنه البعد العسكري للدولة العميقة للغرب الجماعي.

وليس من الصعب تحديد موقع الدولة الأوروبية العميقة في الهياكل المرتبطة بمجلس العلاقات الخارجية – في الفرع الأوروبي للجنة الثلاثية، في منتدى كلاوس شواب دافوس، وما إلى ذلك، وهذا هو لوح القوة الذي تواجهه الديمقراطية الأوروبية عندما تحاول (مثل ترامب في الولايات المتحدة) اتخاذ خيار يعتبره النخب الأوروبية “خطأ” و”غير مقبول” و”مستهجن”.

ولا يتعلق الأمر فقط بالهياكل الرسمية للاتحاد الأوروبي، والنقطة المهمة هي قوة أكثر قوة وفعالية، وليس لها أشكال قانونية على الإطلاق، أن هؤلاء هم حاملو مدونة أيديولوجية، والتي، وفقا للقوانين الرسمية للديمقراطية، لا ينبغي أن تكون موجودة، وهؤلاء هم حراس الليبرالية العميقة الجذور، ودائماً ما يتفاعلون بقسوة مع أي خطر ينبع من النظام الديمقراطي نفسه.

وكما هو الحال في الولايات المتحدة، في التاريخ السياسي لأوروبا الحديثة، لعبت المحافل الماسونية دورا كبيرا – مقر الإصلاحات الاجتماعية والتحولات العلمانية، فاليوم ليست هناك حاجة كبيرة للجمعيات السرية، فهي تعمل بشكل علني منذ فترة طويلة، ولكن الحفاظ على التقاليد الماسونية هو جزء من الهوية الثقافية لأوروبا، وهذه هي الطريقة التي تتعامل بها مع أعلى مستوى من السلطة غير الديمقراطية والأيديولوجية المتطرفة، وتتصرف بشكل ينتهك أي قواعد ومعايير قانونية، وامتلكت السلطة الكاملة في أوروبا. وهذه سلطة غير مباشرة أو دكتاتورية سرية، هي الدولة الأوروبية العميقة، باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من نظام واحد للغرب الجماعي، الذي يجمعه حلف شمال الأطلسي.

الدولة العميقة في الاتحاد الروسي في التسعينيات

وآخر ما تبقى هو تطبيق مبدأ الدولة العميقة على روسيا، ولكن من المميزات أنه في السياق الروسي نادرًا ما يستخدم هذا المصطلح، أو بالأحرى لا يستخدم على الإطلاق، وهذا لا يعني أنه لا يوجد شيء مثل الدولة العميقة في روسيا، ما يعني أنه حتى الآن لم تواجهها أي قوة سياسية ذات أهمية تحظى بدعم شعبي حاسم، ومع ذلك، فمن الممكن وصف السلطة التي يمكن، بدرجة معينة من التقليد، أن نطلق عليها اسم “الدولة الروسية العميقة”.

ففي الاتحاد الروسي، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، تم حظر أيديولوجية الدولة، وفي هذا يتزامن دستور الاتحاد الروسي مع الأنظمة الديمقراطية الليبرالية الاسمية الأخرى، فهناك انتخابات متعددة الأحزاب، واقتصاد السوق، والمجتمع العلماني، ويتم احترام حقوق الإنسان، أي أن روسيا الحديثة، من وجهة نظر رسمية، لا تختلف جوهريا عن دول أوروبا وأمريكا، أو عن تركيا.

ورغم ذلك، كان هناك بعض السلطة الضمنية فوق الحزبية في روسيا، وكان هذا ملحوظًا بشكل خاص في عهد يلتسين، ثم سميت هذه السلطة بالمصطلح العام “الأسرة”. ولقد قامت “العائلة” بوظائف مثل هذه الدولة العميقة. وإذا كان يلتسين نفسه هو الرئيس القانوني (وإن كان غير الشرعي) لها، فلم ينتخب أحد بقية أعضائها ولم تكن لهم أي صلاحيات قانونية، فكانت “العائلة” في التسعينيات تتألف من أقارب يلتسين والأوليغارشية ومسؤولي الأمن المخلصين والصحفيين والليبراليين الغربيين، ولقد نفذوا الإصلاحات الرأسمالية الرئيسية في البلاد، ودفعوها بغض النظر عن التشريع، أو قاموا بتغييره حسب تقديرهم، أو ببساطة أهملوه، ولم يتصرفوا بقوة المصالح العائلية فحسب، بل كدولة عميقة حقيقية – حيث حظروا بعض الأحزاب ودعموا البعض الآخر بشكل مصطنع، وقاموا بحرمان الفائزين من السلطة (الحزب الشيوعي للاتحاد الروسي، والحزب الديمقراطي الليبرالي) ومنحها لأحزاب مجهولة وغير معروفة، وأشخاص غير متميزين، ويسيطرون على وسائل الإعلام ونظام التعليم، ويعيدون تخصيص صناعات بأكملها لشخصيات موالية لهم، ويلغون ما لم يكن مثيرًا للاهتمام بالنسبة لهم، ولم يعرفوا عن الدولة العميقة كمصطلح في روسيا في ذلك الوقت، لكن الظاهرة نفسها كانت واضحة.

وتجدر الإشارة إلى أنه في مثل هذه الفترة القصيرة من الزمن بعد انهيار نظام الحزب الواحد الشمولي المباشر والأيديولوجي الصريح، لم يكن من الممكن أن تنشأ دولة عميقة كاملة بشكل مستقل في روسيا، وبطبيعة الحال، انضمت النخب الليبرالية الجديدة ببساطة إلى الشبكة الغربية العالمية، مستمدة الأيديولوجية منها، فضلاً عن منهجية السلطة غير المباشرة (potestas indirecta) – من خلال الضغط، والفساد، وشركات الإعلام، والسيطرة على التعليم، ووضع معايير لما هو مفيد وما هو ضار، وما هو متاح وما يجب منعه، وقد أطلقت الدولة العميقة في عهد يلتسين على معارضيها وصف “المحاربين المتطرفين” وتعمدت منع الهجمات الخطيرة من اليمين واليسار، ولكن هذا يعني أنه كان هناك نوع من الأيديولوجية (غير معترف بها رسميًا في الدستور)، والتي على أساسها تم اتخاذ مثل هذه القرارات بشأن الصواب والخطأ، ولقد كانت الليبرالية.

الديكتاتورية الليبرالية

وفق ما سبق نجد أن الدولة العميقة لا تنشأ إلا في الديمقراطية، باعتبارها مؤسستها الأيديولوجية التصحيحية والمسيطرة، وهذه القوة السرية لها تفسير عقلاني، فبدون مثل هذا المنظم الفائق الديمقراطية، فإن النظام السياسي الليبرالي قد يتغير، لأنه لا توجد ضمانات بأن الناس لن يختاروا القوة التي ستقدم طريقها البديل للمجتمع، وهذا بالضبط ما حاول فعله أردوغان في تركيا وترامب في الولايات المتحدة والشعبويون في أوروبا ونجحوا فيه جزئيًا.

ولكن المواجهة مع الشعبويين تجبر الدولة العميقة على الخروج من الظل، وكان هذا الأمر سهلاً في تركيا، لأن هيمنة العسكريين الكماليين كانت إلى حد كبير بمثابة تكريم للتقاليد التاريخية، ولكن في حالة الولايات المتحدة وأوروبا، فإن مثل هذا الاكتشاف لمقر أيديولوجي يعمل بالإكراه والأساليب الشمولية وغالباً ما يخالف القانون، دون أن يكون له أي شرعية انتخابية، هو فضيحة واضحة، لأنه يسبب ضرراً لا يمكن إصلاحه للاعتقاد الساذج بأسطورة الديمقراطية.

بالتالي فإن الدولة العميقة مبنية على أطروحة ساخرة، تتفق تماما مع روح مزرعة الحيوان لأورويل: “بعض الديمقراطيين أكثر ديمقراطية من غيرهم”. لكن هذه هي بالفعل دكتاتورية وشمولية، كما قد يعتقد المواطنون العاديون، وسيكونون على حق، والفرق الوحيد هو أن شمولية الحزب الواحد تعمل بشكل علني، وأن القوة السرية التي تقف فوق نظام التعددية الحزبية تضطر إلى تعطيل حقيقة وجودها، ولم يعد من الممكن القيام بذلك، فنحن نعيش في عالم تتحول فيه “الدولة العميقة” من خيال المؤامرة إلى واقع سياسي واجتماعي وأيديولوجي واضح ومسجل بوضوح، ومن الأفضل أن تواجه الحقيقة بصدق، فالدولة العميقة خطيرة.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *