الثلاثاء. ديسمبر 24th, 2024

باتت الحرب الأميركية في الشرق هي صراع وجود الولايات المتحدة على رأس الهرم العالمي وما قاله بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية بأن كيانه يخوض اليوم حرب وجود وعاد بالأمس ليقول بأنّ معركة “السيوف الحديدية” هي معركة “يوم القيامة” ينعكس أيضاً على الأصيل الأميركي وبشكل أدق “الأنجلوساكسونيين” في حربهم التي يخوضونها على الشرق بزواياها الثلاثة (شرق المتوسط، شرق آسيا، شرق أوروبا) في المقابل يتوجب على القوى الناهضة في الشرق التكاتف لمواجهة آلة القتل الأنجلوسكسونية التي تسعى بكل إمكانياتها التكنولوجية والاقتصادية والعسكرية والمعلوماتية والاستخباراتية وتسخير كل أدواتها في هذه الحرب الوجودية التي ستحرق بنارها الجميع فلا مكان اليوم للحياد ولا المرواغة فالحرب شدت أوزارها..

وتجدر الإشارة هنا، إلى أنّ هذه الحرب وهذا الصراع لم يكن نتيجة لـ”طوفان الأقصى” في شرق المتوسط، أو نتيجة لـ”العملية العسكرية الروسية في دونباس” في شرق أوروبا، ولا حتى ما يتعلق بـ”جزيرة تايوان” في شرق آسيا، إنما هذا الصراع هو نتيجة “الإرادة” الأنجلوساكسونية بالسيطرة على مفاصل الاقتصاد العالمي وعموده الفقري المتمثل بالطاقة سواء بمنابعها أو طرق إمدادها، أضف إلى ذلك أهداف “الدولة العميقة” في الولايات المتحدة لتشكيل حكومة عالمية واحدة والانتقال من الولايات المتحدة كدولة قومية إلى “إمبراطورية” ديمقراطية عالمية، وفق فرضية مفادها أنّ مصير الولايات المتحدة هو جعل العالم كله ليبرالياً وديمقراطياً، بحيث تم وضع مُثُل وقيم الديمقراطية الليبرالية والرأسمالية والفردية هنا فوق المصالح الوطنية.. واعتبار الانتصار الكامل للفردية والسياسة الجنسانية هي الأهداف العليا التي لا يمكن تغييرها أو الانحراف عنها والمسؤول

وهنا يمكننا القول بأنّ “الدولة العميقة” التي تسعى إلى تشكيل “الحكومة العالمية” وتطبيق “الديمقراطية” و “الليبرالية المطلقة” وتطبيق “العولمة وما ينطوي ضمنها من أفكار جنسانية” وفرض “السيطرة على مفاصل الاقتصاد العالمي و”إدارة” الصراع في الشرق تتمثل بكل من مجلس العلاقات الخارجية (الذي تأسس في العشرينيات من القرن العشرين على يد أشخاص ذوي تفكير مماثل للرئيس وودرو ويلسون، وهو مؤيد قوي للعولمة الديمقراطية)، وبعد ذلك بكثير حركة المحافظين الجدد الأمريكيين (الذين ظهروا من بين التروتسكيين – الهامشيين ذات يوم – واكتسبوا بشكل تدريجي نفوذ كبير في الولايات المتحدة) .

وهنا لا بد من التنويه إلى أنّ كل من “مجلس العلاقات الخارجية” و”المحافظين الجدد” وضعا لأنفسهما هدف توجيه المسار الاستراتيجي للسياسة الأمريكية ككل، وذلك بغض النظر عن الحزب الذي سيهيمن حاليا وبالتالي يمكن اعتبارهما مستقلين عن أي حزب واحد، فضلاً عن ذلك فإن كلاً من هاتين السلطتين تتمتعان بإيديولوجية واضحة ومنظمة وهي ـ العولمة الليبرالية اليسارية – في حالة مجلس العلاقات الخارجية، و -مهاجمة الهيمنة الأميركية – في حالة المحافظين الجدد، والمشترك ما بينهما كلاهما يؤيدان العولمة مع فارق أن مجلس العلاقات الخارجية هو من أنصار العولمة اليساريين المشروطين، والمحافظين الجدد من أنصار العولمة اليمينيين.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ جميع أنشطة أنصار العولمة (سواء اليمنيين أو اليساريين) تهدف إلى تشكيل حكومة عالمية واحدة، مما يعني ضمناً الاضمحلال التدريجي للدول الوطنية ونقل السلطة من قبل الكيانات ذات السيادة السابقة إلى أيدي الأوليغارشية العالمية التي تتكون من الليبراليين في العالم، وهي نخب نشأت على أنماط الغرب… ومن هنا يمكننا فهم أسباب الصراع الدائر حالياً سواء في شرق آسيا

أو شرق أوروبا أو حتى شرق المتوسط ومن يدير هذا الصراع بات واضحاً وهو “الدولة العميقة” التي شاركت تاريخياً طوال القرن العشرين – مع بعض الانقطاع في الحرب العالمية الثانية – في إنشاء منظمات فوق وطنية – أولاً عصبة الأمم، ثم الأمم المتحدة، ونادي بيلدربيرج، واللجنة الثلاثية، وما إلى ذلك، وكانت المهمة تتلخص في إنشاء “نخبة ليبرالية عالمية موحدة” تشترك في أيديولوجية العولمة في كل شيء بما في ذلك الفلسفة والثقافة والعلوم والاقتصاد والسياسة وغيرها..

وبمعنى ما، فإن الدولة الأمريكية العميقة ثنائية القطب، أي أن لها قطبين هما:

 يساري عولمي “مجلس العلاقات الخارجية” ويميني عولمي “المحافظون الجدد”، ولكن كلاً من المنظمتين هي منظمة فوق حزبية، ولم يتم اختيارها من قِبَل أي شخص، وتحملان إيديولوجية شمولية شديدة الهوس الاستباقي، وفي كثير من الجوانب، فإنها تتطابق مع بعضها البعض، وتختلف فقط في البلاغة، وكلاهما ضد روسيا في عهد فلاديمير بوتين والصين في عهد شي جين بينغ، وضد إيران في عهد الدولة الإسلامية الإيرانية وضدّ التعددية القطبية بشكل عام، لا  بل هي ضد كل من يقف في وجه طموحاتها العالمية التي تجبرها على الخروج من السر إلى العلن ومن الظل إلى الضوء ومن الأفضل اليوم مواجهتها حتى من الداخل الأميركي والأوروبي “الشعبي” المناهض لها وما تقوم به “إسرائيل” اليوم في شرق المتوسط، و”أوكرانيا” في شرق أوروبا، و”تايوان” في شرق آسيا ليس سوى تنفيذ لأجندة الدولة العميقة الأميركية.

 ويتوجب اليوم أكثر من أي وقت مضى تكاتف القوى في الشرق لمواجهة هذا الصراع الوجودي الذي يمكن اعتباره آخر الحروب وبذور الحرب العالمية الثالثة التي ستأكل بنارها الجميع ولا حياد ولا منطقة رمادية ستكون بمأمن عن تلك النيران التي إن أرادت تلك الدول والقوى الشرقية الوقوف ضدها فستكون فرصتها التاريخية لقلب الموازين الدولية والحؤول دون تحقيق أهداف “الدولة العميقة” والمعنونة بالسيطرة على الطاقة بمكامنها وممراتها وفرض الهيمنة المالية والسياسية والعسكرية وكذلك فرض قيمها المثلية وأفكارها الفردية المطلقة.

وليس من المغالاة إن قلنا بأن هذا الصراع اللامتماثل عن سابقاته ينضوي على الإيدولوجي والجيوبولتيكي والجيواقتصادي:

 فالأول صراع الأفكار الفردية الليبرالية المطلقة ضد الأفكار المحافظة والقيم الراسخة لدى الشرقيين سواء القيم الكونفوشيوسية في شرق آسيا، أو القيم المسيحية المشرقية أو الإسلامية في شرق أوروبا وشرق المتوسط، والأهم من كل ذلك صراع ضد الأفكار القومية والوطنية حتى لو كانت وفق ما قاله ترامب سابقاً “أميركا أولاً”.

 والثاني صراع السيطرة على مفاصل الجيوبولتيك العالمي لبسط النفوذ خارج الحدود.

 والثالث صراع على مفاصل الاقتصاد العالمي المعنون بالطاقة بمكامنها وممراتها..

وعليه فإن السيناريوهات كلها مطروحة والأبوب مفتوحة في هذه الحرب القائمة على “كسر الإرادات” والصبر الاستراتيجي اليوم يجب أن يتحول نحو غضب استراتيجي والانتقال من الدفاع إلى الهجوم ومن الخاص إلى العام فما ألفناه سابقاً من سياسات ونظريات في العلاقات الدولية يبدو أننا اليوم أمام تغيير موازينها وعناوينها لتنقلب بميزانها من الغرب باتجاه الشرق والمطلوب التكاتف والتآزر ورص الصفوف..

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *