الأثنين. ديسمبر 23rd, 2024

لم تعد الحرب الروسية الأوكرانية محصورة فقط بين موسكو وكييف، إذ أنه مع بداية العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، انتفض الغرب فوراً، وفي مقدمه الولايات المتحدة، ليجعل من أوكرانيا فخاً تقع فيه موسكو، على غرار ما حصل لها في أفغانستان زمن الاتحاد السوفياتي.

في أفغانستان حشدت واشنطن كلّ حلفائها، ودعمت بن لادن والقاعدة، وكلّ “الغيارى” على الإسلام والمسلمين، من أجل إلحاق الهزيمة بالسوفيات وهذا ما حصل.

منذ عام 2022، وبعيد بدء العمليات العسكرية الروسية، ضد كييف، أرادت واشنطن مرة أخرى ان تكون أوكرانيا فخاً وحرب استنزاف طويلة الأمد لروسيا، إلا أنّ هدف روسيا من الحرب في أوكرانيا، يختلف في الشكل والأساس عن هدف الاتحاد السوفياتي في افغانستان، لكون أوكرانيا تشكل خاصرة الأمن القومي لروسيا، ومجالها الحيوي، وأيّ تفريط في الحسابات، والمواجهة، والحسم، سيتيح للحلف الاطلسي التمدّد باتجاه روسيا، ومن ثم احتوائها، وزعزعة استقرارها، وخلخلة قومياتها، ما يسهّل لأميركا في ما بعد هيمنتها على أوراسيا.

واشنطن كما موسكو،لا تقبل بهزيمة في أوكرانيا، مهما طال أمد حرب الاستنزاف الأميركية، لأنّ أيّ تراجع من قبل طرف سيدفع بالطرف الاخر الى فرض شروطه، وتعزيز نفوذه على حساب المنهزم. لذا لا مجال أمام موسكو للتراجع عن مواقفها، في الوقت الذي تتشبّث فيه واشنطن وزلينسكي بشروطهما.

ظاهرياً، تخوض موسكو الحرب ضدّ أوكرانيا، لكن واقعياً وعملياً، هي حرب تجري بين روسيا من جهة، وبين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة أخرى، وهي تخوض حربها من وراء الحدود، عبر صنيعتها زيلينسكي، تزوّده بكلّ ما يحتاج إليه من مال وسلاح متطوّر.

بيانات الأمم المتحدة والدول المانحة، تشير الى أنّ كييف تلقت عام 2022 مساعدات إنسانية بلغت قيمتها 102.2 مليار دولار. وعام 2023، مساعدات قيمتها 68.3 مليار دولار. كما بلغت قيمة المساعدات العسكرية 48.5 مليار عام 2022، و41.4 مليار دولار عام 2023.

واشنطن خصصت مساعدات لأوكرانيا قيمتها 40.4 مليار دولار عام 2022، و44.6 مليار عام 2023. كما قدّم الاتحاد الأوروبي مساعدات عام 2022 بلغت 43.2 مليار دولار. أما مساعدة البنك الدولي لأوكرانيا عام 2022 فقد بلغت 18 مليار دولار و 10 مليارات عام 2023.

حرب الاستنزاف التي أرادتها واشنطن لروسيا لم تنحصر داخل الأراضي الأوكرانية، بل عمدت واشنطن الذهاب بعيداً في تزويد أوكرانيا بمقاتلات وصواريخ متطورة، ومُسيّرات تخرق الأجواء الروسية، وصولاً إلى موسكو، بغية إحراج روسيا في عقر دارها، ودفعها إلى اتخاذ قرارات خطيرة تغرقها أكثر في المستنقع الأوكراني.

الطرفان الروسي – الأوكراني الأميركي الأوروبي، مستمران في الحرب، طالما أنّ موسكو لن تفرّط بمصالحها القومية والأمنية، فيما واشنطن مصمّمة على توسيع مجال الحلف، والإمساك بأوروبا وإبقائها امتداداً لنفوذها وأمنها القومي ومصالحها الاستراتيجية. لذلك تبدو الحرب طويلة، لأنّ المنتصر فيها سيتحكّم مستقبلاً بالقرار السياسي، والأمني، والاستراتيجي ليس في أوراسيا فقط، وإنما على مساحة جغرافية واسعة من العالم كله.

ماذا عن الشرق الأوسط، الذي لا تختلف فيه أهداف وتطلعات واشنطن عن تطلعاتها في أوروبا، لجهة هيمنتها وسيطرتها على موارد الطاقة، وبسط نفوذها السياسي والعسكري والأمني عليه والتحكم بقرارات دوله، وبالذات في المشرق العربي (سورية الطبيعية)، التي وصفها في الخمسينيات من القرن الماضي، وزير الخارجية الأميركي الأسبق جون فوستر دالس بقوله: “إنّ سورية موقع حاكم في الشرق الأدنى”.

إنها أكبر حاملة طائرات ثابتة على الأرض، في هذا الموقع الذي هو نقطة التوازن تماماً في الاستراتيجية العالمية. “هذا الموقع لا يجازف به أحد، ولا يلعب فيه طرف. مَن امتلكها، امتلك مفاتيح الشرق، وسيطر على العصب الذي يربط المشرق بأوروبا.”

إنّ الحرب الدائرة منذ عام مع الكيان الإسرائيلي، ستقرّر مصير المنطقة بأكملها، انطلاقاً من لبنان، إذ في ظلّ انشغال روسيا في أوكرانيا، نجد الولايات المتحدة تقف بكلّ شراسة وانحياز إلى جانب “إسرائيل”، توفر لها كافة وسائل الدعم المالي والعسكري والسياسي، والإعلامي، والدبلوماسي، فيما تعترف “إسرائيل” أنّ حربها لم تكن ممكنة لولا الأسلحة الأميركية المكثفة والدعم المالي واللوجستي لها، إذ انه بموجب مذكرة التفاهم بين واشنطن وتل أبيب التي بدأت عام 2018 وتنتهي عام 2028، تحصل “إسرائيل” على مساعدات عسكرية قيمتها 38 مليار دولار، علماً أنّ 70% من الأسلحة التي تسلّمتها “إسرائيل” بين عامي 2019 و2023، مصدرها الولايات المتحدة، وفقاً لبيانات معهد ستوكهولم لأبحاث السلام .

واشنطن التي تقف بكلّ شراسة ضدّ محور المقاومة في المشرق، تعلم جيداً، أن أي هزيمة تلحق بـ “إسرائيل”، ستغيّر مجرى تاريخ المنطقة ومستقبلها، وستقلب الأوضاع والموازين فيها، رأساً على عقب، وستمهّد للإطاحة بأنظمة، ودمى حاكمة، ترعرعت في أحضانها. مما يعني لواشنطن، ظهور شرق أوسط جديد يضع حداً للهيمنة الأميركية – “الإسرائيلية”، ويكون مغايراً تماماً للذي دعا إليه السيّئو الذكر شيمون بيريز، وكونداليزا رايس، وبنيامين نتنياهو.

من هنا تعتبر واشنطن أنّ حرب “إسرائيل” على محور المقاومة، رغم كلّ ما ترتكبه من مجازر وإبادة جماعية، حرباً وجودية للكيان، ودفاعاً عن نفسه وعن مصالح أميركا الاقتصادية والاستراتيجية في الشرق الأوسط.

إنها حرب مصيرية على الجبهتين الأوكرانية والمشرقية، حيث لن تتراجع موسكو عن مطالبها في أوكرانيا، كما لن يتوقف المحور في المشرق عن الاستمرار في صموده والدفاع عن وجوده وإنْ كلفه الكثير.

ليس في صالح روسيا ظهور شرق أوسط أميركي ـ “إسرائيلي” جديد، وليس في صالح محور المقاومة انهزام روسيا في أوكرانيا، لأنّ انتصار روسيا في أوكرانيا (أوروبا) ومحور المقاومة في المنطقة، انتصار مشترك ضدّ “إسرائيل”، والإمبراطورية المستبدّة التي تحكّمت وتتحكّم بدول عديدة في العالم، على مدى عقود طويلة، حيث عانت الشعوب من سياساتها المستبدّة، الإذلال والقهر، والفقر، والاستغلال، والنهب، والحروب والفوضى، والمآسي.

دعوة واشنطن وتل أبيب إلى شرق أوسط جديد، يعني تطويق روسيا، وإبعادها عن منطقة الشرق الأوسط، وإضعاف أمنها القومي ومجالها الحيوي، ما يعزّز ويعمّق من هيمنة الغرب على الشرق، والإمساك بعنقه.

لكن ماذا لو اتسعت رقعة الحرب الإقليمية في المشرق – وهذا محتمل جداً – هل ستقف موسكو مكتوفة الأيدي حتى ترى الزحف الأميركي يطرق بابها، أم انها ستجد أمنها القومي معنياً بما يدور في المشرق، ويدفعها للتحرك؟!

إنه مخاض عسير لمستقبل جديد ينتظره الشرق الأوسط، وظرف مصيري للبنان ترى فيه “إسرائيل” أنّ الوقت مناسب جداً، كي تحتلّ الجنوب، وتهجّر أهله، وتغيّر ديموغرافيته، وهويّته، وضمّه إليها.

هنا، يتحتم على كلّ اللبنانيين، مقاومة هذا المشروع الخطير

بكلّ قوة وإجهاضه بالوسائل كافة، للانطلاق بشرق أوسط جديد، بهوية، وطنية، عربية، قومية، وليس بهوية دينية، صهيونية، توراتية سوداء تفرضها عليه واشنطن وتل أبيب!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *