الأحد. ديسمبر 22nd, 2024

مع مرور عام على عملية طوفان الأقصى التي أطلقتها حركة حماس، يبدو أن الأبعاد الاستراتيجية لهذه العملية قد أثرت بشكل عميق على المشهد الفلسطيني والإقليمي. إذ يعيد هذا الحدث إلى الواجهة القضايا المركزية المتعلقة بالاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، مما يثير تساؤلات حيوية.

كيف تمكنت المقاومة من تحويل موازين القوى لصالحها في ظل الظروف القاسية؟ وما مدى تأثير هذه العملية على قدرة إسرائيل في إعادة تشكيل استراتيجياتها بعد أن تم دفعها إلى نقطة الصفر في سياق الصراع المستمر؟

أبعاد عملية طوفان الأقصى وتأثيراتها على المعادلات السياسية والاقتصادية في المنطقة

  تعدت عملية “طوفان الأقصى” التي أطلقتها حركة حماس في 7 أكتوبر 2023 الجانب العسكري لتشمل لتحمل معها أبعادًا استراتيجية عميقة بتأثيرات سياسية، اجتماعية، واقتصادية على المستويين المحلي والإقليمي. من منظور استراتيجي، يمكن اعتبار هذه العملية بمثابة تحول نوعي في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، حيث سعت حركة المقاومة حماس إلى تغيير المعادلة القائمة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي من خلال إحداث صدمة غير مسبوقة في مستوى الهجوم وطبيعته.

العملية كانت تسعى إلى كسر قواعد الاشتباك التي كانت تفرضها إسرائيل منذ سنوات طويلة، خصوصًا من خلال الحصار الذي استمر منذ 2007 على غزة، وعمليات التصعيد المتكررة التي كانت غالبًا تتسم بتمركزها في الجوانب الدفاعية للفصائل الفلسطينية.

أحد الأبعاد الاستراتيجية الرئيسية كان تكتيك الهجوم المفاجئ على إسرائيل باستخدام القوة العسكرية المركبة التي شملت إطلاق آلاف الصواريخ، التسلل البري والبحري، والهجمات على مستوطنات ومواقع عسكرية في العمق الإسرائيلي. هذا النوع من الهجوم غير المتوقع كان يهدف إلى إحداث تأثير معنوي كبير على الداخل الإسرائيلي من خلال زعزعة الشعور بالأمن الذي كان يعتبر ركيزة أساسية لسياسات إسرائيل الأمنية. في الوقت نفسه، كانت هذه العملية محاولة لاستعادة ثقة الشارع الفلسطيني والعربي في قدرة المقاومة على الفعل والتأثير، خصوصًا بعد سنوات من الجمود السياسي والتسويات غير الفعالة.

استراتيجية “طوفان الأقصى” لم تتوقف عند الجانب العسكري فقط، بل كانت تهدف أيضًا إلى إثارة مواقف وردود فعل إقليمية ودولية.

وبتوقيت الهجوم مع فترة الانشغال العالمي بقضايا متعددة مثل الأزمة الأوكرانية والمنافسة الأمريكية-الصينية، استطاعت حماس توجيه الأنظار مجددًا إلى القضية الفلسطينية، وهو ما أربك الحسابات الإقليمية، خاصة في ظل عمليات التطبيع المتزايدة بين إسرائيل وعدد من الدول العربية. من هنا، يمكن القول إن العملية سعت إلى عرقلة مسار هذه التطورات الإقليمية التي اعتبرتها حماس تهديدًا للقضية الفلسطينية.

على الصعيد الدولي، دفعت عملية “طوفان الأقصى” العديد من القوى الكبرى إلى إعادة تقييم مواقفها إزاء الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.

 كما فرض التصعيد غير المسبوق على القوى الغربية، وخاصة الولايات المتحدة، تحديات في كيفية التعامل مع تداعيات العملية، خاصة في ظل انقسام الرأي العام العالمي حيال تأييد المقاومة أو إسرائيل.

اقتصاديًا، كان للأضرار التي لحقت بالاقتصاد الإسرائيلي جراء هذه العملية أثر استراتيجي مهم. الهجمات أثرت على النشاطات الاقتصادية، من خلال تعطيل حركة الطيران والتجارة، وأدت إلى تفاقم المخاوف الأمنية والاستثمارية في الداخل الإسرائيلي. في المقابل، تأمل حماس من خلال هذا التصعيد تعزيز الموارد المالية والدعم من الحلفاء الإقليميين، وهو ما يعد جزءًا من الأبعاد الاقتصادية طويلة الأمد للعملية.

في النهاية، “طوفان الأقصى” شكّل نقطة تحول في الصراع، كونه تجاوز الأبعاد التقليدية للاشتباك العسكري ليلامس جوانب استراتيجية أكبر تهدف إلى إعادة تشكيل الوضع القائم في المنطقة، سواء في الداخل الفلسطيني أو على مستوى العلاقات الإقليمية والدولية.

  طوفان الأقصى: إعادة تموضع القضية الفلسطينية في صدارة الاهتمام العالمي

أعادت عملية “طوفان الأقصى” تسليط الضوء على القضية الفلسطينية وجعلتها تتصدر المشهد العالمي بشكل غير مسبوق منذ سنوات. بعدما كانت القضية الفلسطينية تعاني من تراجع في أولويات السياسة الدولية في ظل انشغال العالم بقضايا أخرى مثل الحرب في أوكرانيا والتوترات في بحر الصين الجنوبي، جاءت هذه العملية لتعيد توجيه أنظار العالم إلى القضية الفلسطينية، ولتكشف عن هشاشة الأوضاع في المنطقة رغم محاولات تهدئتها عبر اتفاقيات التطبيع.

أحد أهم العوامل التي ساهمت في إعادة إحياء القضية الفلسطينية كان عنصر المفاجأة والقوة الهجومية التي أظهرتها حماس من خلال “طوفان الأقصى”. هذه العملية، التي تضمنت إطلاق آلاف الصواريخ والهجمات البرية والبحرية، جاءت في وقت كان يُعتقد فيه أن قطاع غزة في حالة ضعف وتحت حصار طويل الأمد. بهذا التصعيد الكبير، تم كسر الشعور بالاستقرار النسبي الذي كانت تعيشه إسرائيل، وجاءت المشاهد التي تداولتها وسائل الإعلام العالمية عن الانفجارات، وحالات الهلع، والخسائر البشرية لتعيد توجيه الانتباه إلى جذور الاستيطان الإسرائيلي.

التغطية الإعلامية المكثفة التي تلت العملية، سواء في وسائل الإعلام التقليدية أو عبر منصات التواصل الاجتماعي، لعبت دورًا رئيسيًا في هذا الصدد. وعلى مدار أيام، هيمنت مشاهد الدمار والقصف المتبادل والضحايا المدنيين على نشرات الأخبار العالمية، مما أثار موجة جديدة من النقاشات حول الأزمة الفلسطينية وفشل المجتمع الدولي في إيجاد حل دائم له. ساهمت هذه التغطية في إعادة طرح الأسئلة حول حقوق الفلسطينيين، خصوصًا فيما يتعلق بالحصار على غزة، وتوسيع المستوطنات في الضفة الغربية، واحتلال القدس الشرقية.

بجانب الأثر العسكري والإعلامي، كان للتوقيت السياسي للعملية دور في إعادة التركيز على القضية الفلسطينية. في السنوات التي سبقت العملية، كانت إسرائيل قد تمكنت من توقيع عدة اتفاقيات تطبيع مع دول عربية، وهو ما كان يعتبره البعض مؤشرًا على انحسار مركزية القضية الفلسطينية في السياسة الإقليمية. لكن “طوفان الأقصى” جاء ليكشف أن التطبيع لم يحل الصراع الأساسي، وأن التوترات في الأراضي المحتلة ما زالت مستمرة ومؤهلة للتصعيد في أي لحظة. هذا الهجوم أعاد تذكير الدول العربية والمجتمع الدولي بأن القضية الفلسطينية ما زالت عنصرًا محوريًا في استقرار المنطقة، ولا يمكن تجاوزها بسهولة.

في المحصلة، يمكن القول إن “طوفان الأقصى” أخرج القضية الفلسطينية من حالة التهميش الدولي وأعادها إلى واجهة الأحداث من خلال الصدمة التي أحدثتها على عدة مستويات: عسكريًا، سياسيًا، إعلاميًا، وإنسانيًا.

مخرجات الأزمة وعجز المنظمات الدولية

كشف “طوفان الأقصى” العديد من المخرجات الحيوية، وكان من أبرزها العجز الواضح الذي أبدته المنظمات الدولية في التعامل مع تداعيات الصراع. برز هذا العجز في ظل تعقيد المشهد السياسي والإنساني، حيث أخفقت هذه المنظمات في تقديم حلول فعالة أو حتى لعب دور حاسم في إدارة الأزمة المتفاقمة على الأرض. وقد ظهرت عدة جوانب لهذا العجز، تتراوح بين البعد السياسي والإنساني، وانعكست على مختلف الأطراف المعنية بالصراع.

على الصعيد السياسي، بدا واضحًا أن المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة ومجلس الأمن لم تستطع التأثير بشكل مباشر في مسار الأحداث، حيث فشلت في إصدار قرارات ذات فعالية ملزمة للأطراف المتنازعة. اصطدمت الجهود الأممية بشكل خاص بالتوازنات الجيوسياسية بين القوى العظمى، خاصة أن الولايات المتحدة، باعتبارها الداعم الأكبر لإسرائيل، استخدمت حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن لمنع أي تحرك دولي قد يدين إسرائيل أو يفرض ضغوطًا عليها. هذا التداخل بين المصالح السياسية للدول الكبرى والوظيفة المفترضة للمنظمات الدولية ممّا أدى إلى تجميد أي مبادرات يمكن أن تسهم في تهدئة الأوضاع، وهو ما جعلها تبدو غير قادرة على لعب دور الوسيط المحايد الذي يبحث عن حل دائم.

أما من الناحية الإنسانية، فإن الأزمة كشفت كذلك عن قصور واضح في أداء المنظمات الإنسانية، مثل اللجنة الدولية للصليب الأحمر والأمم المتحدة عبر وكالاتها الإنسانية. حيث أنّه مع تفاقم الوضع في قطاع غزة بسبب الحصار والقصف الإسرائيلي، والزيادة الكبيرة في أعداد الضحايا المدنيين، وجدت هذه المنظمات نفسها عاجزة عن توفير الإغاثة اللازمة أو ضمان وصول المساعدات بشكل آمن إلى المدنيين المتضررين.

كما أنّ لإجراءات البيروقراطية المعقدة والقيود الأمنية المشددة التي فرضتها إسرائيل أعاقت إلى حد كبير جهود الإغاثة الإنسانية، مما ساهم في تعميق الكارثة الإنسانية في القطاع. في هذا السياق، ظهرت مظاهر الانهيار في البنية التحتية والخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه، فضلًا عن النقص الحاد في الأدوية والإمدادات الطبية.

وتفاقم هذا العجز أيضًا بسبب غياب الآليات الدولية التي تضمن حماية المدنيين في مناطق النزاع. ورغم أن القانون الدولي الإنساني يفرض التزامات على جميع الأطراف لحماية المدنيين، فإن الانتهاكات المتكررة التي حدثت خلال هذه الأزمة من قبل الجيش الإسرائيلي قوبلت بعجز المجتمع الدولي عن فرض المحاسبة. وزاد عدم القدرة على تقديم آلية فعالة للتحقيق في هذه الانتهاكات ومعاقبة المسؤولين عنها من الشعور بأن المنظمات الدولية أصبحت تفتقر إلى النفوذ الفعلي للتعامل مع هذا النوع من الأزمات.

من ناحية أخرى، أظهر التعامل الإعلامي الدولي مع الأزمة أيضًا تباينًا واضحًا في تغطية الأحداث، حيث اتهمت المنظمات الدولية والإعلام الغربي بالتحيز في بعض الحالات، وهو ما أضعف من ثقة الأطراف المتنازعة في هذه المؤسسات. هذه الاتهامات دفعت بعض الأطراف الفلسطينية إلى النظر إلى المنظمات الدولية باعتبارها أدوات سياسية مسيرة من قبل القوى الغربية، مما زاد من تعقيد الأزمة وأدى إلى تفاقم حالة الاستقطاب.

إحدى المخرجات البارزة لهذه الأزمة أيضًا تمثلت في تعميق الهوة بين الشعوب والأنظمة العالمية. فقد أدى ضعف الأداء الدولي إلى تصاعد الشعور بالإحباط واليأس لدى الشعوب، خاصة في العالمين العربي والإسلامي، حيث نمت نظرة تشاؤمية تجاه قدرة المؤسسات الدولية على تحقيق العدالة أو إحداث تغيير حقيقي. هذا الشعور قد يؤدي في المستقبل إلى تزايد الدعوات للتحرك من خارج الأطر الدولية التقليدية، سواء عبر دعم المقاومة أو تصعيد المطالب بتغييرات جذرية في بنية النظام الدولي.

في النهاية، أظهرت أزمة “طوفان الأقصى” أن المنظمات الدولية، رغم وجودها كجزء أساسي من النظام العالمي، تعاني من عجز مزمن في التعامل مع الأزمات التي تتسم بتداخلات سياسية وإنسانية معقدة. هذا العجز لم يقتصر على الفشل في إدارة الأزمة، بل امتد إلى قضايا أعمق تتعلق بالثقة والشرعية في النظام الدولي، مما يفتح المجال لمراجعات واسعة حول دور هذه المؤسسات وإمكانية إصلاحها.

كشف “الوجه القبيح” لإسرائيل وإعادتها الى نقطة الصفر

تسعى المقاومة ضد الصهيونية، منذ بدايتها، إلى تقويض المشروع الصهيوني الذي يرتكز على إنشاء دولة يهودية في فلسطين التاريخية على حساب السكان الأصليين. هذا الصراع طويل الأمد لا يقتصر على البعد العسكري فقط، بل يمتد ليشمل أبعادًا سياسية، ثقافية، وأيديولوجية. وفي هذا السياق، تجسد عملية “طوفان الأقصى” التي نفذتها حماس في أكتوبر 2023، محاولة جديدة لاستعادة زمام المبادرة وفرض معادلات جديدة في مواجهة إسرائيل، حيث شكلت هذه العملية جزءًا من استراتيجية أوسع لإعادة إسرائيل إلى “نقطة الصفر” أو بالأحرى إضعافها وجعلها تواجه تحديات وجودية تتعلق باستمرارها كمشروع استعماري استيطاني.

على الصعيد العسكري، كانت “طوفان الأقصى” تعبيرًا عن تحول في قدرة المقاومة الفلسطينية على توجيه ضربات عميقة ومؤلمة للكيان الإسرائيلي. من خلال الهجوم المفاجئ والكبير الذي استهدف مستوطنات ومواقع عسكرية إسرائيلية، برهنت المقاومة على أن إسرائيل ليست محصنة، وأنه بالإمكان زعزعة الشعور بالأمن الذي تشكل على مدار عقود. الهجمات التي طالت عمق إسرائيل وسببت خسائر بشرية ومادية كبيرة مثلت رسالة واضحة بأن أمن إسرائيل، الذي طالما كان يُعتبر غير قابل للمساس، يمكن أن يتآكل بفعل المقاومة، وبالتالي، تقويض المشروع الصهيوني الذي يعتمد على تفوق إسرائيل العسكري والإستراتيجي لضمان بقائها. عبر هذه العملية، كانت المقاومة تسعى إلى إضعاف الروح المعنوية للإسرائيليين، وزرع الشكوك حول قدرة دولتهم على حماية أمنهم في مواجهة ضربات المقاومة، ما يخلق حالة من التوتر والاضطراب الداخلي.

إلى جانب الجانب العسكري، هناك أبعاد سياسية مهمة تسعى المقاومة من خلالها إلى إعادة إسرائيل إلى نقطة الصفر. أحد أبرز هذه الأبعاد هو رفض التطبيع مع الدول العربية والإسلامية الذي تسعى إسرائيل إلى تكريسه كجزء من تعزيز وجودها الإقليمي. التطبيع الذي حققته إسرائيل في السنوات الأخيرة مع بعض الدول العربية جاء في سياق محاولتها خلق بيئة سياسية واقتصادية مستقرة تقبل بوجودها دون حل للقضية الفلسطينية. غير أن “طوفان الأقصى” جاء ليعيد طرح القضية الفلسطينية إلى الواجهة وليكشف أن التطبيع لا يمكن أن يكون بديلاً عن حقوق الفلسطينيين. فالهجوم الواسع أحرج الدول التي طبّعت مع إسرائيل، ووضعها تحت ضغوط شعبية وسياسية كبيرة، خاصة في ظل استمرار الاعتداءات الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني. هذه الضغوط قد تؤدي إلى إضعاف مسار التطبيع وتقييد قدرة إسرائيل على تحقيق المزيد من الاتفاقات في المنطقة، مما يعيدها إلى عزلة جزئية شبيهة بتلك التي عانت منها لعقود.

على الصعيد الأيديولوجي، تسعى المقاومة إلى تفكيك الفكرة الصهيونية نفسها، وهي فكرة إنشاء دولة قومية لليهود فقط في فلسطين. من خلال عملياتها، تحاول المقاومة إعادة تعريف الصراع كصراع وجودي حول الأرض والحقوق التاريخية، وليس فقط نزاعًا سياسيًا حول الحدود أو الموارد. هذا التحدي الأيديولوجي يضع المشروع الصهيوني في مواجهة تساؤلات داخلية وخارجية حول شرعيته واستدامته.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *