الأثنين. ديسمبر 23rd, 2024

تصاعدت الحركات اليمينية المتطرفة في الولايات المتحدة على خلفية تزايد الانقسام الاجتماعي والعداء العرقي والاستقطاب السياسي في السنوات الأخيرة. وأصبح الفكر السياسي اليميني المتطرف تيارا سائدا، واستمرت القوى السياسية اليمينية المتطرفة مثل “براود بويز” (PROUD BOYS) – أو الأولاد الفخورون- في التوسع والنمو. وجسدت حوادث مثل “اقتحام مقر الكونغرس (الكابيتول هيل)” التأثير العميق الذي جلبته الحركات اليمينية المتطرفة إلى الولايات المتحدة.

 فالحركات اليمينية المتطرفة في الولايات المتحدة تتمتع بنفوذ دولي عميق، وتربطها العلاقات الوثيقة مع القوى السياسية اليمينية المتطرفة في أوروبا ومناطق أخرى. بالإضافة إلى ذلك، تلعب الحركات اليمينية المتطرفة في الولايات المتحدة، ذات النزعة المتشددة القوية المناهضة للصين، دورا دافعا مهما في عملية التعديل الإستراتيجي للولايات المتحدة تجاه الصين، والتي ستجلب المزيد من الآثار السلبية غير المباشرة على العلاقات الصينية الأمريكية.

الحركات اليمينية المتطرفة في الولايات المتحدة تشكل تهديدا للأمن القومي

في وصفه للأزمة الداخلية الحادة في البلاد، شدّد الرئيس الأمريكي جو بايدن على أن “التطرف السياسي وتفوق البيض والإرهاب المحلي” تشكل تحديات كبيرة. وترتبط هذه التحديات ارتباطا وثيقا بالحركات اليمينية المتطرفة. ويمكن ملاحظة أن الحركات اليمينية المتطرفة أصبحت تهديدا كبيرا في الولايات المتحدة.

وقد طلب بايدن صراحة من مكتب مدير الاستخبارات الوطنية الأمريكية ووزارة الأمن القومي ومكتب التحقيقات الفيدرالي والوكالات الحكومية الأخرى إجراء تقييم مشترك لتهديد العنف والتطرف في البلاد وصياغة  تدابير مضادة مقابلة حيال ذلك على هذا الأساس. وأعادت إدارة بايدن إنشاء منصب مستشار الأمن القومي للرئيس، الذي تشمل مسؤولياته الأساسية معالجة التهديدات الأمنية التي تشكلها القوى السياسية اليمينية المتطرفة في الولايات المتحدة.

 كما أولى مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض أهمية كبيرة لقضية الحركات اليمينية المتطرفة. وفي يونيو 2021، أصدرت إدارة بايدن أول “إستراتيجية وطنية لمكافحة الإرهاب المحلي”، معلنة أن العنف اليميني المتطرف هو أكبر تهديد للأمن الداخلي الأمريكي.

وتعتبر أيديولوجية اليمين المتطرف مزيجا من تفوق البيض ومناهضة الفيدرالية والأفكار السياسية الأخرى. وعلى الرغم من أن اليمين المتطرف ولد من رحم التيار المحافظ، إلا أنه لم يعتبر الأفكار السياسية الليبرالية واليسارية خصما له فحسب، بل يعارض بشدة المعتدلين ومؤيدي المؤسسة الحاكمة في معسكر المحافظين. وتشمل الحركات اليمينية المتطرفة في الولايات المتحدة عناصر متنوعة، ولا توجد لها منظمة واحدة. وتضم شخصياتها البارزة ريتشارد سبنسر مدير معهد السياسة الوطنية، وأندرو أنجلين مؤسس موقع “ذا ديلي ستورم” للنازية الجديدة. باختصار، تشمل مواقف الحركات اليمينية المتطرفة في الولايات المتحدة ما يلي:

حُكم على إنريكي تاريو، القائد السابق لمجموعة “براود بويز” اليمينية المتطرفة في 5 سبتمبر 2023، بالسجن 22 عاما بتهمة المشاركة في الهجوم على مبنى الكابيتول في 6 يناير 2021 وتعطيل عملية التصديق على نتائج انتخابات 2020. والصورة ملتقطة لمحاميه يتحدث أمام الصحفيين

أولا، التحريض على القومية البيضاء وتفوق الجنس الأبيض، والادعاء بأن الولايات المتحدة تواجه “الإبادة الجماعية” ضد البيض، والمطالبة باستعادة البلد الذي ينتمي إلى البيض.

ثانيا، مناهضة العولمة ومناهضة الهجرة، إذ أنهم يعتقدون أن العولمة الاقتصادية أدت إلى معضلة الحياة الصعبة للطبقتين الوسطى والدنيا من البيض في الولايات المتحدة، وأن المهاجرين والبيض “يتنافسون على الوظائف”.

 ثالثا، مناقضة النخب ومؤيدي المؤسسة الحاكمة، ويعتقدون أن النخب السياسية والتجارية التي تدعم العولمة لا تهتم بحياة المواطنيين الأمريكيين العاديين، وتعزز عمليات مثل التجارة الحرة لمصالحها الخاصة، مما أدى إلى الركود المتزايد في الولايات المتحدة. رابعا، معارضة جماعات مثل النسويات والمثليين والمتحولين جنسيا واليهود، ويعتقدون أنها تقوّض الاستقرار الاجتماعي والنظام الذي يقدره المحافظون.

بالمقارنة مع التيار المحافظ التقليدي والقوى اليمينية، تتمتع الحركات اليمينية المتطرفة بالخصائص المميزة التالية: أولا، تدعو إلى استخدام الوسائل العنيفة وشبه العسكرية لتحقيق مطالبها السياسية الخاصة. وقد أوضحت بعض الجماعات اليمينية المتطرفة، مثل حركة بوغالو، أنها تستعد لحرب أهلية والإطاحة بالحكومة. ثانيا، الحركات اليمينية المتطرفة نتاج لسياسات الهوية وتجسيد للحروب الثقافية في الولايات المتحدة، ولها أساس نفسي اجتماعي واضح.

وتعتقد القوى اليمينية المتطرفة أن القوى اليسارية في الولايات المتحدة شهدت تناميا مستمرا على مدى العقود القليلة الماضية، وجهود المحافظين لمناهضة الإجهاض والمثلية الجنسية كانت غير فعالة، ومع الزيادة الكبيرة في المهاجرين من اللاتينيين والآسيويين، يواجه الهيكل الديموغرافي والاجتماعي تحدي “الاستبدال العظيم” (Great Replacement)، الذي سيغير بشكل جذري طريقة الحياة التي يهيمن عليها البيض وثقافة البيض في الولايات المتحدة، ويجب اتخاذ تدابير جذرية للدفاع عن “بلد البيض”. ثالثا، تروج الحركات اليمينية المتطرفة لجميع أنواع نظريات المؤامرة مثل “الغوغاء اليهود يسيطرون على العالم”.

وخلال عهد إدارة ترامب، تصاعدت الحركات اليمينية المتطرفة في الولايات المتحدة والعنف الشديد الذي جلبته معها. فقد نفذت جماعات مثل “براود بويز” سلسلة من أعمال العنف خلال مظاهرات “حركة حياة السود مهمة” (Black Lives Matter) والانتخابات الرئاسية لعام 2020. وكشف مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي عن مؤامرة لاختطاف حاكمة ولاية ميشيغان الديمقراطية جريتشن ويتمير والإطاحة بحكومة الولاية بعنف، فجميع اللأشخاص  المشاركين في القضية من الجماعات اليمينية المتطرفة، وكان بعضهم من عناصر مشاة البحرية السابقة.

وفي السنوات الأخيرة، شهد تأثير الحركات اليمينية المتطرفة نموا بدلا من التراجع، وأصبحت أيديولوجياتها أكثر انتشارا. ويحظى ترامب بدعم العديد من الجماعات اليمينية المتطرفة، التي يطلق بعضها على نفسه اسم “محاربي ترامب”. وحاولت حركة “لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى” داخل الحزب الجمهوري استخدام قدرة التعبئة القوية للقوى السياسية اليمينية المتطرفة لتوجيه ضربة قوية لبايدن والحزب الديمقراطي في انتخابات الرئاسة الأمريكية لعام 2024. ووفقا لتقييم الوكالات والخبراء الحكوميين في الولايات المتحدة، قد تشكل الحركات اليمينية المتطرفة تهديدا أكبر في المستقبل، وذلك لأسباب عدة:

أولها احتمال ظهور المزيد من “عمليات الذئاب المنفردة” التي تقوم بها عناصر اليمين المتطرف، يؤدي إلى تفاقم التحدي الذي يمثله الإرهاب المحلي في الولايات المتحدة؛

والثاني أنه قد تكثف القوى اليمينية المتطرفة تخطيط وتنفيذ عمليات شبه العسكرية، لاستخدام منظمات الميليشيات البيض لشن تمردات مسلحة والاستيلاء على السلطة في الحكومات المحلية في الولايات المتحدة.

والثالث، أن القوى اليمينية المتطرفة قد تشن اعتداءات انتقامية ضد الشخصيات الإعلامية الليبرالية، وفي حال ضغطت إدارة بايدن أكثر على وسائل التواصل الاجتماعي لتقييد أصوات اليمين المتطرف، فقد تزيد الجماعات اليمينية المتطرفة من هجماتها على الشخصيات والمؤسسات الإعلامية. والرابع، أن القوى اليمينية المتطرفة تروج لإجراء “استفتاء على الاستقلال” في تكساس وغيرها من الولايات الأكثر محافظة، لتمارس ضغوطا بطريقة قانونية وسلمية نسبيا على الحكومة الفيدرالية التي يسيطر عليها الديمقراطيون.

أسباب تنامي الحركات اليمينية المتطرفة في الولايات المتحدة

الحركات اليمينية المتطرفة في الولايات المتحدة لها جذور تاريخية عميقة، يعود تاريخها إلى ظهور جماعة “كو كلوكس كلان” – المعروفة اختصارا بـ(KKK)- في الستنيات من القرن الـ19 خلال الحرب الأهلية في الولايات المتحدة.

ودعت الجماعة المكونة بشكل رئيسي من قدامى المحاربين في الجيش الكونفدرالي المعارض لتحرير العبيد، إلى العنف للحفاظ على التفوق الاجتماعي للبيض على السود واليهود والمهاجرين الآسيويين وغيرهم من المهاجرين. وجرىالحفاظ على كل من الأيديولوجيات العنصرية وتفوق البيض وتقاليد العنف السياسي داخل مجتمع الولايات المتحدة، خاصة في المناطق الجنوبية والغربية من الولايات المتحدة.

وتعتبر الحرب الأهلية مصدرا مهما للعنف السياسي المحلي في الولايات المتحدة. وبحلول الستنيات من القرن العشرين، كانت حركة الحقوق المدنية التي ظهرت في الولايات المتحدة مصحوبة في الواقع بعنف سياسي خطير. ويشعر العديد من الأكاديميين الأمريكيين بالقلق من أن الحركات اليمينية المتطرفة تزيد بشكل كبير من خطر عودة الولايات المتحدة إلى الحرب الأهلية.

إن التوجه السياسي اليميني المتطرف الحالي هو أساسا نتاج التغيرات العميقة في سياسة الولايات المتحدة خلال حقبة ما بعد الحرب الباردة تحت تأثير العولمة. وبعد نهاية الحرب الباردة، ومع تولي بيل كلينتون والحزب الديمقراطي السلطة، تسارعت عملية العولمة الاقتصادية والتحرر السياسي، وتم قمع المحافظين المحليين في الولايات المتحدة من قبل الحزب الديمقراطي والقوى اليسارية.

وعلى هذه الخلفية، تحاول القوى السياسية اليمينية المتطرفة، وفي مقدمتها ريتشارد سبنسر وغيره، الرد بقوة. فقد جرى تعيين ستيف بانون كبير الإستراتيجيين في البيت الأبيض في إدارة ترامب عام 2017، وإدخال شخصيات تحمل أفكارا يمينية متطرفة مثل مارجوري تايلور غرين إلى الكونغرس، ما يمثل دخولا ناجحا للقوى السياسية اليمينية المتطرفة التي كانت على هامش المجتمع إلى قلب الساحة السياسية الأمريكية.

ويرجع تنامي القوى السياسية اليمينية المتطرفة في الولايات المتحدة إلى أسباب عدة، أولها استمرار توسع الفجوة بين الأغنياء والفقراء في المجتمع الأمريكي، وارتفاع غضب واستياء الطبقتين الوسطى والدنيا البيض ضد النخبة السياسية، حيث أن الوضع الاقتصادي الصعب للبيض من الطبقة الدنيا يوفر الظروف الأساسية لتوسع الحركات اليمينية المتطرفة.

إن المأزق الاقتصادي للبيض ناتج أساسا عن ثلاثة عوامل:

أولا، تسببت العولمة الاقتصادية في فقدان الوظائف، خاصة في الصناعات التحويلية والطاقة.

ثانيا، أدى التقدم التكنولوجي مثل الأتمتة إلى مشكلة تفاقم البطالة، التي كان لها تأثير كبير على البيض الأقل تعليما في المناطق الريفية.

ثالثا، لم تتسبب الأمولة “Financialization” في الاقتصاد الأمريكي – أي الاقتصاد القائم على توليد الربح عبر التجارة بالمال دون الدخول في عملية إنتاجية حقيقية، كما في أسواق المال والبورصات- إلا في استفادة عدد قليل مثل نخب وول ستريت، وتسببت آلية التوزيع الاجتماعي غير العقلانية في ظهور المرض المزمن المتمثل في “أن الأغنياء يزدادون ثراء والفقراء يزدادون فقرا”. وتقول المنظمات اليمينية المتطرفة مثل باتريوت فرونت (الجبهة الوطنية) إن البيض هم “ضحايا” العولمة، والآراء المناهضة للعولمة التي يدافعون عنها يشاركها العديد من البيض الأمريكيين.

السبب الثاني، أدت الخلافات العرقية المتزايدة في الولايات المتحدة، وارتفاع معدل الخصوبة لذوي البشرة الملونة وعوامل أخرى إلى ارتفاع “القلق الوجودي” للبيض في الولايات المتحدة، وتلقت أفكار تفوق الجنس الأبيض التي تروج لها القوى السياسية اليمينية المتطرفة الدعم المتزائد. ووفقا لمكتب تعداد الولايات المتحدة، سيفوق عدد الأمريكيين من أصول إفريقية ولاتينية وآسيوية وغيرهم من ذوي البشرة الملونة في الولايات المتحدة تعداد البيض بحلول عام 2044 تقريبا.

 وتزعم القوى اليمينية المتطرفة أنه إذا لم يتم تعديل النظام الانتخابي في الولايات المتحدة، وإذا لم تتبن الإدارة الأمريكية بحزم سياسات تدعم البيض وتقمع الهجرة، كما فعل ترامب، فإن مصير البيض سيصبح أكثر بؤسا. كما يعتقدون أنه لا يمكن “جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى” إلا من خلال “جعل أمريكا بيضاء مرة أخرى”. ومعظم أنصار الحركات اليمينية المتطرفة هم من البيض من الطبقة المتوسطة الدنيا في الولايات المتحدة والذين يعتقدون اعتقادا راسخا أن شخصيات مثل ترامب هي “المنقذ” للبيض في الولايات المتحدة.

السبب الثالث، أدى تطور التكنولوجيا مثل الإنترنت وتعميم وسائل التواصل الاجتماعي إلى ظهور “القبلية” السياسية في الولايات المتحدة، والتي مكنت القوى السياسية اليمينية المتطرفة من تحقيق نشر أيديولوجي وتعبئة سياسية بشكل أكثر فعالية. فالتكنولوجيا الرقمية سيف ذو حدين للديمقراطية في الولايات المتحدة، وكما يقول فرانسيس فوكوياما، الباحث البارز في جامعة ستانفورد، يمكن للناس التعبير عن آرائهم عبر الإنترنت، بينما تنتشر أيضا نظريات المؤامرة والافتراء.

 ولقد حاصرت وسائل التواصل الاجتماعي بالفعل عددا كبيرا من سكان الولايات المتحدة في “شرانق معلومات”، وتشهد “القبلية” السياسية في الولايات المتحدة تصاعدا متزايدا، ويمكن رؤية “خطاب الكراهية” المرتبط بالسياسة في كل مكان على الإنترنت، بينما تتهرب منصات التواصل الاجتماعي التي تنشر هذه التصريحات من مسؤوليتها عن ذلك. وتتمثل الإستراتيجية الأساسية للمنظمات السياسية اليمينية المتطرفة في الولايات المتحدة في استخدام الإنترنت والوسائل التقنية الأخرى لإنشاء ونشر جميع أنواع المعلومات الخاطئة، واستخدام برامج توليد آلية لإنشاء إعجابات وإعادة مشاركات كاذبة، وتحفيز الخوف من البيض في الولايات المتحدة والتلاعب به.

السبب الرابع، أدت أوجه القصور المتأصلة في النظام السياسي للولايات المتحدة، لا سيما النظام الانتخابي، إلى زيادة الاستقطاب السياسي في الولايات المتحدة بشكل عام، مما يوفر بيئة مواتية لنمو الحركات اليمينية المتطرفة.

 فمنذ الأزمة المالية العالمية عام 2008، أصبح الصراع بين الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري في الولايات المتحدة شرسا بشكل متزايد، واشتد “الصراع بين اليسار واليمين” في الولايات المتحدة بشكل متزايد بسبب عوامل مثل إعادة تقسيم الدوائر الانتخابية، وأدى الصراع الشرس بين الأحزاب السياسية إلى تحويل ديمقراطية الولايات المتحدة إلى نوع من “الفيتوقراطية” (Vetocracy) ، وتفتقر الحكومة إلى القدرة على حل التناقضات في الولايات المتحدة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية، مما أدلى إلى تراجع ثقة الجمهور في الحكومة والنخب السياسية.

 وفي ظل عدم قدرة نظام الأحزاب السياسية الحالي في الولايات المتحدة على الاستجابة لتحديات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، تتراجع قدرة النظام الانتخابي في الولايات المتحدة على حل الخلافات السياسية في الولايات المتحدة. ووفقا لإحصاءات علماء السياسة الأمريكيين، كان هناك أكثر من 900 اقتراح محدد بشأن كيفية إصلاح الهيئة الانتخابية، ولكن كان من الصعب الدفع لهذه الإصلاحات في الولايات المتحدة. كما أن النظام السياسي في الولايات المتحدة لا يملك القدرة الكافية على الحد من العنف السياسي اليميني المتطرف، مثل العديد من الثغرات التشريعية والقضائية في التعامل مع الإرهاب المحلي.

الحركات اليمينية المتطرفة في الولايات المتحدة تواصل توسيع نفوذها الدولي

في حين أن تطور الحركات اليمينية المتطرفة في الولايات المتحدة قد أحدث تغييرا عميقا في البيئة السياسية الأمريكية المحلية، فقد أولت هذه الحركات أيضا اهتماما بتوسيع نفوذها إلى الخارج، والتواطؤ بشكل وثيق مع القوى السياسية اليمينية المتطرفة في أوروبا ومناطق أخرى، في محاولة لنسج شبكة دولية من الحركات اليمينية المتطرفة. وتحمل القوى السياسية اليمينية المتطرفة في الولايات المتحدة مشاعر قوية معادية للصين، مما دفع حكومة الولايات المتحدة بتبني سياسة متشددة تجاه الصين، والتي أثرت على استقرار العلاقات الصينية الأمريكية إلى حد ما.

بناء شبكة دولية من الحركات اليمينية المتطرفة

يعتبر نمو الحركات اليمينية المتطرفة في الولايات المتحدة انعكاسا للقوى الشعبوية اليمينية المتنامية في جميع أنحاء العالم بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008، وله خصائص دولية بارزة. وتركز القوى اليمينية المتطرفة في الولايات المتحدة على توسيع نفوذها إلى الخارج مع السعي للحصول على دعم خارجي في محاولة لبناء شبكة دولية متماسكة بشكل متزايد من الحركات اليمينية المتطرفة. وهذا الاتجاه بارز بشكل خاص بين الولايات المتحدة وأوروبا.

فبعد ترك منصبه في أغسطس 2017، أنشأ ستيف بانون، كبير المستشارين الإستراتيجيين السابق لترامب مؤسسة تسمى “الحركة” (The Movement) في أوروبا، والتي تعمل بشكل أساسي على تشجيع القوى السياسية اليمينية المتطرفة في أوروبا، ومحاولة تعزيز الربط والاعتماد المتبادل بين القوى السياسية اليمينية المتطرفة في الولايات المتحدة وأوروبا. وأشار كمال ديلفيش، كبير الباحثين في معهد بروكينغز في الولايات المتحدة، وآخرون إلى أن بانون يحاول بناء “أممية قومية جديدة”.

وجاء التوسع المستمر لنفوذ القوى اليمينية المتطرفة الأمريكية في أوروبا على خلفية تاريخية خاصة، حيث تتصاعد الأحزاب الشعبوية اليمينية في البلدان الأوروبية وتكتسب تدريجيا مكانة مهمة على الساحة السياسية وتؤثر بشكل متزايد على أنظمة الدول المعنية. فعلى سبيل المثال، قالت مارين لوبان، زعيمة حزب التجمع الوطني في فرنسا، إنه لا يوجد في الواقع سوى معسكرين سياسيين في فرنسا، أحدهما مؤيد لحزب التجمع الوطني والآخر ضده. وفي حين يواجه المشهد السياسي الفرنسي تأثيرات متزايدة من الأحزاب الشعبوية اليمينية، تشهد ألمانيا توجها مماثلا.

وتظهر استطلاعات الرأي في السنوات الأخيرة أن نسبة التأييد لحزب البديل من أجل ألمانيا (AfD) ، الذي يدعم السياسات المناهضة للمهاجرين واليورو، قد ارتفعت بشكل كبير، في حين تشهد نسبة تأييد الأحزاب التقليدية مثل “الاتحاد الديمقراطي المسيحي” في ألمانيا انخفاضا مستمرا. وفي الواقع، إضافة إلى حزب “التجمع الوطني” الفرنسي وحزب “البديل من أجل ألمانيا” الألماني، حققت الأحزاب الشعبوية اليمينية مثل حزب استقلال المملكة المتحدة، وحزب الشعب الدنماركي، وحزب الفنلنديين، حققت انتصارات عديدة في الانتخابات لمختلف البلدان في السنوات الأخيرة، بل إن بعض هذه الأحزاب احتلت مكانة ثاني أكبر حزب في برلمانات بلدانها.

وهناك نقاط تشابه كثيرة بين مطالب الحركات اليمينية المتطرفة الأمريكية والأوروبية، وقد ساعد تفاعلها مع بعضها البعض على تعزيز شرعية وتأثير أيديولوجية اليمين المتطرف.

أولا، تشارك هذه الحركات مواقف معادية للنخب والتيار الرئيسي وميولا قومية قوية وكراهية الأجانب، وتدعو جميعها إلى بناء “مجتمع متجانس” بمعنى العرق والنسب والثقافة.

ثانيا، تستهدف هذه الحركات الأقليات العرقية، وأتباع الديانات غير السائدة، والمهاجرين باعتبارهم الأسباب الجذرية للأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في بلادهم.

 ثالثا، تعلق جميعها أهمية على حماية “السيادة الوطنية”. فتدعو القوى السياسية اليمينية المتطرفة في الولايات المتحدة إلى “استعادة بلدنا”، وتشعر بالاشمئزاز الشديد من المنظمات الدولية وتعددية الأطراف، وتنادي بـ”الأولوية للسيادة الوطنية”.

بينما تتبنى الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا بشكل عام مواقف مماثلة، وتعارض علنا التكامل الأوروبي، وتكره النخب السياسية التي تدعم فكرة “المزيد من أوروبا” (More Europe)، ويدعو أنصار هذه الحركات إلى خروج بلدانهم من الاتحاد الأوروبي، واستعادة السيادة الوطنية، وتوفير “حماية” قوية لمواطنيها.

وتبنت القوى اليمينية المتطرفة الأمريكية الإستراتيجيات التالية لتوسيع نفوذها في أوروبا.

أولا، تكثيف الجهود لتعزيز شعور الجمهور الأوروبي بانعدام الأمن والخوف. ففي السنوات الأخيرة، واجهت أوروبا أزمات متعددة، منها أزمة الديون الأوروبية، وأزمة اللاجئين، وأزمة أوكرانيا، والتي أدت إلى تفاقم شعور الجمهور الأوروبي بانعدام الأمن بشكل كبير، مما وفر “تربة خصبة” للقوى السياسية اليمينية المتطرفة في الولايات المتحدة لنشر الشعبوية والقومية بين الشعوب الأوروبية.

ثانيا، مساعدة الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا على جذب الناخبين من الأحزاب الرئيسية. وتشمل هذه الأحزاب اليمينية المتطرفة حزب الشعب في النمسا والحزب الاشتراكي في إسبانيا. وبسبب الأداء الضعيف للأحزاب التقليدية الكبيرة في العديد من البلدان الأوروبية، صورتها الأحزاب اليمينية المتطرفة على أنها “نخب سياسية” فاسدة وغير كفؤة وغير مبالية. واستغلت الأحزاب اليمينية المتطرفة الوضع لكسب رأس المال السياسي وكسب الناخبين.

 ثالثا، إجبار الأحزاب الرئيسية على استيعاب الأفكار السياسية اليمينية المتطرفة، بما في ذلك تقييد الهجرة، والتضييق على المسلمين، وما إلى ذلك، والحد من تقييد سيادة الدول المعنية من قبل الاتحاد الأوروبي. رابعا، دفع الأحزاب اليمينية المتطرفة إلى زيادة نفوذها في البرلمان الأوروبي. فقد نجحت الأحزاب اليمينية المتطرفة في العديد من الدول الأوروبية في تحدي الأحزاب السياسية التقليدية السائدة، وبدأت دخول مقر الاتحاد الأوروبي ببروكسل، وتستخدم آليات الاتحاد الأوروبي ومنصاته ومخصصاته البرلمانية للترويج لأفكارها السياسية ضد التكامل الأوروبي، والتأثير على وضع جدول أعمال الاتحاد الأوروبي من حيث سياسة الهجرة والجوانب الأخرى.

إضافة إلى ذلك، تروج القوى اليمينية المتطرفة الأخرى في الولايات المتحدة مثل “حركة التسامي” تروج للفاشية الجديدة وتربطها روابط وثيقة مع منظمات مثل “كتيبة آزوف” في أوكرانيا وجماعة “إيسويكاي” اليمينية في اليابان.

وزارت هذه القوى اليمينية المتطرفة الأمريكية اليابان “لمناقشة التعاون” وأجرى أعضاؤها زيارة جماعية إلى ضريح ياسوكوني الذي يكرم مجرمي الحرب، كما درّبت كتيبة آزوف، ذات طابع النازية الجديدة، المتعصبين البيض في الولايات المتحدة.

وأجرت القوى السياسية اليمينية المتطرفة في الولايات المتحدة أيضا اتصالات عميقة مع القوى اليمينية في العديد من بلدان أمريكا اللاتينية، مثل البرازيل والأرجنتين. وفي حقبة ما بعد الجائحة، ستتحول عوامل مثل ضعف التنمية الاقتصادية العالمية إلى تخريب سياسي، ومن المرجح أن يتوسع تأثير الحركات اليمينية المتطرفة، إذ أن مقترحاتها السياسية أكثر تحريضا، وتعتمد بشكل كبير على اتصالات الفضاء الإلكتروني وتركز على تطوير القوى الشعبية وتعزيز الروابط عبر الحدود الوطنية بطريقة سرية.

تداعيات الحركات اليمينية المتطرفة على العلاقات الصينية الأمريكية

يمثل تزايد تأثير المشهد السياسي الداخلي على منافسة القوى الكبيرة منظورا مهما لدراسة تطور إستراتيجية الولايات المتحدة تجاه الصين، وأصبح تأثير العوامل السياسية الداخلية على العلاقات الصينية الأمريكية أكثر عمقا وتعقيدا. ويميل بعض السياسيين في الولايات المتحدة إلى “البحث عن كبش فداء” للصعوبات التي تواجهها الولايات المتحدة، معتبرين الصين خيارهم الأول.

وتتخذ القوى السياسية اليمينية المتطرفة في الولايات المتحدة عموما موقفا متشددا مناهضا للصين وللشيوعية، وقد تصرفت بشكل تعسفي لتشكيل وعي الناخبين الأمريكيين تجاه الصين. بينما ساهم الناخبون الذين يتبنون مواقف سلبية على نحو متزايد في التعامل مع الصين في تشكيل مواقف الساسة الأمريكيين، الذين اعتادوا على السعي إلى الحصول على فوائد في السياسة الداخلية من خلال اللعب بـ”ورقة الصين” وكسب دعم الناخبين وجماعات المصالح ذات الصلة من خلال إظهار موقف صارم تجاه الصين. وسوف تتسبب هذه الحلقة المفرغة في إلحاق ضرر دائم وكبير بالعلاقات الصينية الأمريكية.

وأظهرت مجموعة من استطلاعات الرأي في السنوات الأخيرة أن الناخبين الجمهوريين في الولايات المتحدة لديهم تصور سلبي أكثر خطورة عن الصين، وهو ما يرتبط ارتباطا وثيقا بالدعاية المعادية للصين من قبل القوى السياسية اليمينية المتطرفة مثل ستيف بانون.

 إضافة إلى ذلك، فإن التصور السلبي للصين الذي يروج له اليمين المتطرف يرتبط أيضا بعوامل مختلفة مثل العرق والدين. وأشار عالما السياسة بجامعة ديلاوير ديفيد إيبرنار وفلاديمير ميدينيكا إلى أن البيض الأمريكيين الذين يعبرون عن مستويات أعلى من الكراهية العنصرية من المرجح أن ينظروا إلى الصين على أنها تهديد عسكري.

ويرى بيتر برنارت، أستاذ العلوم السياسية في جامعة مدينة نيويورك، أن جمعية جون بيرش (The John Birch Society) ، وهي منظمة ذات طابع ديني روجت تاريخيا للتعصب المناهض للشيوعية ونظريات المؤامرة، بمثابة عرض مسبق للشعبوية اليمينية الحالية، وأن الإنجيليين البيض في الولايات المتحدة هم الأكثر عداء للصين في الوقت الحاضر، ويرى العديد من الناخبين الجمهوريين صعود الصين ليس فقط كتهديد لقوة الولايات المتحدة، ولكن أيضا كتهديد للقوة المسيحية للبيض.

وخاصة بعد تفشي جائحة كوفيد -19، تعمدت القوى السياسية اليمينية المتطرفة في الولايات المتحدة تضخيم نظريات المؤامرة مثل “فيروس الصين” وأثارت عداء أكبر بين الجمهور الأمريكي ضد الأمريكيين من أصل آسيوي، وخاصة الجالية الصينية منهم، وزادت أنشطة “مجموعات الكراهية” و”جرائم الكراهية” التي يقودها البيض بشكل كبير، مما جلب أيضا تحديات جديدة وخطيرة للعلاقات الصينية الأمريكية.

إضافة إلى ذلك، يجب علينا توخي الحذر الشديد من التواطؤ بين القوى السياسية اليمينية المتطرفة في الولايات المتحدة  وقوى مثل “استقلال تايوان” و”استقلال شينجيانغ” للدفع المشترك للأجندة المناهضة للصين. وباختصار، في الفترات الحالية والمستقبلية، يستحق تأثير القوى السياسية اليمينية المتطرفة في السياسة الداخلية للولايات المتحدة اهتماما كبيرا.

وقد تؤدي عوامل مثل التحقيق القضائي الذي دفعه بايدن والديمقراطيون تجاه ترامب إلى تحفيز القوى السياسية اليمينية المتطرفة في الولايات المتحدة. وإذا فاز ترامب في انتخابات عام 2024، فقد يصل تأثير الحركات اليمينية المتطرفة في الولايات المتحدة إلى مستوى جديد. وسيكون لتصاعد الفوضى السياسية في الولايات المتحدة تأثير إمتدادي على العلاقات الصينية الأمريكية، وتحتاج الصين إلى اتخاذ احتياطات حيال ذلك والتعامل بشكل صحيح مع عدم الاستقرار المتزائد المتأصل في الهيمنة الأمريكية.

 

By amine

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *