إعدادا صبرين العجرودي قسم البحوث والدراسات الإستراتجية والعلاقات الدولية 18-09-2024
في السنوات الأخيرة، أصبحت أوكرانيا لاعبًا ناشئًا في القارة الأفريقية، وهو ما أثار تساؤلات حول مدى قدرتها على التحول إلى منافس جدي في القارة أو مجرد وكيل دولي ينفذ أجندات أكبر. هذه التحركات الأوكرانية جاءت في إطار سعيها لتوسيع حضورها العالمي، خاصة بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في 2022، وما أعقبها من تحول استراتيجي في علاقاتها الخارجية.
فبعد مرور خمسة أشهر فقط على اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، بادرت كييف بتعيين ممثل خاص لشؤون أفريقيا والشرق الأوسط، في خطوة تعكس إدراكها لأهمية هذه المناطق في سياستها الخارجية. وفي فترة وجيزة، أي بعد ثلاثة أشهر من هذا التعيين، قام وزير الخارجية الأوكراني حينها، ديميترو كوليبا – الذي أُقيل من منصبه مؤخرًا – بأول جولة دبلوماسية لأفريقيا منذ استقلال أوكرانيا عن الاتحاد السوفييتي قبل أكثر من ثلاثين عامًا. هذه الزيارة لم تكن مجرد بروتوكول سياسي، بل جاءت في إطار تعزيز العلاقات الاقتصادية والسياسية مع دول القارة، خاصة في ظل تنامي التنافس بين القوى العالمية على النفوذ في أفريقيا، حيث تسعى أوكرانيا لتقديم نفسها كلاعب جديد ومستقل، بعيدًا عن الصراعات الجيوسياسية التقليدية.
كيف تحولت أوكرانيا من غياب دبلوماسي في القارة إلى منافس محتمل للقوى الكبرى مثل روسيا والصين، وما هي استراتيجياتها في محاولة تعزيز نفوذها في أفريقيا وسط التحديات الداخلية والخارجية؟
العلاقات التاريخية والاقتصادية مع أفريقيا
تعود العلاقات الأوكرانية الأفريقية إلى حقبة الاتحاد السوفيتي، حيث كانت أوكرانيا جزءًا من الاتحاد السوفيتي الذي كان يدعم العديد من حركات التحرر في القارة. ولكن بعد استقلالها في 1991، تراجعت العلاقات الاقتصادية والسياسية بين أوكرانيا وأفريقيا بشكل ملحوظ لأنّها كانت منشغلة في بناء دولتها واقتصادها بعد عقود من السيطرة السوفيتية، وكانت القارة الأفريقية خارج نطاق أولوياتها. لكن مع مرور الوقت، وظهور الحاجة إلى تعزيز العلاقات التجارية وتوسيع النفوذ الدبلوماسي، بدأت أوكرانيا في مراجعة سياستها الخارجية تجاه القارة.
يعد تصدير القمح أحد أبرز الأدوات التي تعتمد عليها أوكرانيا في علاقاتها مع الدول الأفريقية، إذ أنّه بعد الحرب مع روسيا، ازدادت أهمية أوكرانيا كمورد عالمي للقمح، وقد أدركت الدول الأفريقية أهمية هذا المورد الحيوي في مواجهة الأزمات الغذائية. ووفقًا للعديد من التقارير، فإن أوكرانيا تسعى لاستغلال هذه الحاجة لتوسيع نفوذها في القارة وتعزيز علاقاتها الثنائية.
بالإضافة إلى القمح، تحاول أوكرانيا استكشاف فرص استثمارية جديدة في مجالات الطاقة والتكنولوجيا الزراعية. وفي ظل توجه العالم نحو مصادر الطاقة المتجددة، تعد أفريقيا سوقًا واعدة لتكنولوجيا الطاقة الشمسية والتقنيات الزراعية التي يمكن أن تلعب دورًا حاسمًا في تحسين الإنتاج الزراعي وتلبية احتياجات القارة المتزايدة.
السياسة والدبلوماسية: التنافس مع القوى الكبرى
تأتي التحركات الأوكرانية في وقت تشتد فيه المنافسة بين القوى الكبرى في أفريقيا. فروسيا والصين تعتبران من اللاعبين الرئيسيين في القارة، حيث يمتلكان استثمارات ضخمة وتأثير سياسي واقتصادي واسع ناجمة عن العلاقات الوطيدة. في هذا السياق، تسعى أوكرانيا إلى التميز من خلال تقديم نفسها كشريك يركز على التنمية المستدامة والتعاون الاقتصادي المتبادل.
كما أن أوكرانيا تحاول أيضًا تعزيز علاقاتها مع الاتحاد الأفريقي والعديد من الدول الرئيسية في القارة من خلال الدبلوماسية الناعمة، على سبيل المثال، ساعدت أوكرانيا في تدريب بعض الكوادر الأفريقية على التكنولوجيا الحديثة، وقدمت منح دراسية للطلاب الأفارقة في جامعاتها.
بالتالي، يمكن القول إن أوكرانيا تسعى لتحقيق مجموعة من الأهداف وراء اهتمامها المتأخر بالقارة الأفريقية، والتي باتت تشكل محورًا أساسيًا في استراتيجيتها الخارجية. أول هذه الأهداف هو تعزيز الدعم الدبلوماسي في المحافل الدولية، حيث تعد أفريقيا أكبر تكتل دولي داخل الأمم المتحدة بواقع 54 دولة، مما يمثل حوالي 28% من إجمالي الدول الأعضاء. وقد أدركت كييف أن دعم هذه الكتلة يشكل ركيزة حيوية لموقفها على المسرح العالمي، خصوصًا في ظل موقف الدول الأفريقية المتباين تجاه الأزمة الأوكرانية. فرغم الجهود الأوكرانية، أظهرت أفريقيا دعمًا محدودًا في بدايات الحرب، فعلى سبيل المثال، في أول تصويت للجمعية العامة للأمم المتحدة في مارس 2022 حول إنهاء الحرب، صوتت 28 دولة أفريقية لصالح القرار، بينما عارضته دولة واحدة، وامتنع 17 دولة أخرى عن التصويت، وغابت 8 دول عن المشاركة. هذا التوزيع يعكس التحديات التي تواجهها أوكرانيا في حشد التأييد الأفريقي بشكل أكبر.
ثانيًا، هناك محاولة لتعويض التأخر الأوكراني في الانخراط مع أفريقيا، فمنذ استقلالها عن الاتحاد السوفييتي في أوائل التسعينيات، لم تحظ أوكرانيا بعلاقات دبلوماسية قوية مع القارة الأفريقية، وقد تأخر الحضور الأوكراني الرسمي إلى حد كبير، حيث لم يقم أي رئيس أو وزير خارجية أوكراني بزيارة رسمية إلى أفريقيا حتى عام 2022.
هذا النقص في التواصل جعل أوكرانيا بحاجة إلى استعادة فرص التعاون التجاري والدبلوماسي التي أهملتها لعقود.
ثالثًا، تسعى أوكرانيا إلى منافسة النفوذ الروسي المتزايد في القارة، والذي أصبح يمثل تحديًا كبيرًا لها في ظل الصراع الجاري مع موسكو، خاصة وأنّها تتمتع بعلاقات قوية مع العديد من الدول الأفريقية، تدعم أنظمة وحكومات وجماعات مسلحة في مختلف أنحاء القارة، مثل دعمها للحكومة العسكرية في مالي. في هذا السياق، تسعى أوكرانيا إلى الحد من النفوذ الروسي عبر إقامة شراكات جديدة وتعزيز علاقاتها مع الدول التي ترى في موسكو خصمًا، مما يدفعها إلى بناء جسور جديدة للتعاون في المجالات الدبلوماسية والاقتصادية والأمنية.
الاهتمام الأوكراني المتزايد بأفريقيا يعكس تحولات استراتيجية تهدف إلى تغيير ديناميكيات العلاقات في القارة، لا سيما مع تصاعد التنافس الدولي على مواردها وموقعها الاستراتيجي.
رغم التقدم الذي تحققه أوكرانيا في القارة الأفريقية، إلا أنها تواجه تحديات كبيرة، من أبرزها المنافسة القوية من دول أخرى مثل الصين وروسيا، اللتين لهما علاقات راسخة واستثمارات كبيرة في أفريقيا. علاوة على ذلك، تعاني أوكرانيا من صعوبات داخلية بسبب الحرب مع روسيا، مما يضعها في موقف حرج من ناحية تخصيص الموارد اللازمة لتعزيز علاقاتها الخارجية.
كما أن بعض الدول الأفريقية قد تنظر إلى أوكرانيا كوكيل لدول غربية، وهو ما قد يعقد علاقاتها مع تلك الدول التي تفضل التعامل مع شراكات غير منحازة.
خلاصة:
يتوقف مستقبل أوكرانيا في أفريقيا على قدرتها على تعزيز حضورها الاقتصادي والدبلوماسي في القارة، وتجاوز التحديات الداخلية والخارجية التي تواجهها. إذا استطاعت أوكرانيا أن تستغل الموارد والفرص المتاحة بشكل فعال، فقد تتحول إلى منافس جدي في القارة الأفريقية، خاصة في مجالات الزراعة والطاقة.
لكن يبقى السؤال مفتوحًا حول ما إذا كانت أوكرانيا ستتمكن من الانفصال عن النفوذ الغربي وتقديم نفسها كشريك مستقل وحقيقي للدول الأفريقية. النجاح في هذا التحدي قد يجعلها لاعبًا رئيسيًا في مستقبل القارة، في حين أن الفشل قد يبقيها في دور الوكيل الذي ينفذ أجندات دول أكبر.
بالتالي تجد اوكرانيا نفسها في مرحلة مفصلية في تاريخ علاقاتها الخارجية، ومع تزايد حضورها في أفريقيا، تصبح أمام خيارين: إما أن تتحول إلى منافس جديد قادر على التأثير في مستقبل القارة، أو أن تظل وكيلًا دوليًا يسعى لتعزيز مصالح القوى الكبرى في أفريقيا.