نور الهدى فجراوي قسم البحوث و الدراسات و العلاقات الدولية 16/09/2024
تقديم :
شهدت أوروبا الغربية تاريخًا طويلًا ومعقدًا من الحركات المسلحة الإرهابية، حيث تطورت هذه الحركات في سياق سياسي واجتماعي مضطرب منذ منتصف القرن العشرين. بدأ هذا السياق بالتشكل بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، عندما دخلت أوروبا في مرحلة إعادة الإعمار تحت تأثير الحرب الباردة، حيث انقسم العالم إلى كتلتين: الكتلة الشرقية بقيادة الاتحاد السوفييتي والكتلة الغربية بقيادة الولايات المتحدة. هذا الانقسام الأيديولوجي أدى إلى بروز حركات متطرفة في كلا الطرفين، سواء في اليسار المتأثر بالماركسية اللينينية، أو في اليمين الذي استمد أفكاره من القومية المتطرفة وأحيانًا من الفكر الفاشي.
الإطار التاريخي للتنظيمات الإرهابية المسلحة في أوروبا الغربية
الحركات المسلحة اليسارية (الستينيات والسبعينيات)
في فترة الستينيات والسبعينيات، تصاعدت التوترات الاجتماعية والسياسية في أوروبا الغربية، ما أدى إلى ولادة حركات يسارية راديكالية سعت إلى قلب النظام الرأسمالي الذي كانت تعتبره ظالمًا وإمبرياليًا. من أبرز هذه الحركات:
الجيش الأحمر الألماني (RAF)، المعروف أيضًا بـ “بادر ماينهوف”، والذي نشأ في ألمانيا الغربية نتيجة للإحباط من النظام السياسي والمؤسسي. شنّ هذا التنظيم هجمات عنيفة ضد مؤسسات الدولة، الشركات الكبرى، والقواعد العسكرية الأمريكية في ألمانيا. هدفت هذه الحملة إلى دفع ألمانيا نحو ثورة شاملة ضد النظام الرأسمالي.
الألوية الحمراء في إيطاليا (Brigate Rosse)، التي ظهرت في أوائل السبعينيات، وقامت بحملة من الهجمات والخطف والاغتيالات بهدف إسقاط الدولة الإيطالية وإقامة نظام شيوعي. كان أبرز أحداثهم اختطاف وقتل رئيس الوزراء السابق ألدو مورو عام 1978.
مجموعة العمل المباشر (Action Directe) في فرنسا، وهي جماعة راديكالية ذات توجه أناركي-شيوعي نفذت سلسلة من الهجمات في الثمانينيات ضد المؤسسات العسكرية والاقتصادية الفرنسية، معتبرة أنها رموز للهيمنة الرأسمالية والاستعمارية.
الحركات القومية والانفصالية
إلى جانب الحركات المسلحة ذات الطابع الأيديولوجي اليساري، ظهرت أيضًا حركات انفصالية وقومية استخدمت العنف لتحقيق أهدافها في الاستقلال أو الحكم الذاتي. من أبرز هذه الحركات:
الجيش الجمهوري الإيرلندي (IRA)، الذي نشأ في أيرلندا الشمالية وسعى لإنهاء السيطرة البريطانية على المنطقة، وتوحيد أيرلندا. خاضت الجماعة حملة عنيفة امتدت لعقود، استهدفت قوات الأمن البريطانية والمدنيين، وقد عُرفت هذه الفترة بـ “الاضطرابات” (The Troubles). لم ينتهِ الصراع بشكل رسمي إلا بعد توقيع اتفاقية الجمعة العظيمة في 1998.
حركة إيتا (ETA)، التي كانت تسعى إلى استقلال إقليم الباسك عن إسبانيا وفرنسا. تأسست إيتا في أواخر الخمسينيات وارتكبت العديد من الهجمات الإرهابية على مدى العقود التالية، بما في ذلك اغتيالات وتفجيرات. استمرت هذه الحملة حتى أعلنت المنظمة عن حل نفسها نهائيًا في عام 2018.
مرحلة القمع والتراجع (الثمانينيات والتسعينيات)
في الثمانينيات بدأت الحكومات الأوروبية بالتشديد في قمع هذه الحركات الإرهابية و تبنت الدول سياسات صارمة لمكافحة الإرهاب بما في ذلك تعزيز التعاون الأمني بين الدول الأوروبية، وتطوير تقنيات جديدة لمراقبة النشاط الإرهابي.
أدت هذه الجهود إلى ضعف العديد من الحركات المسلحة وخاصة مع تراجع الدعم الشعبي لها نظرًا للأعمال العنيفة التي أثارت نفور العديد من المتعاطفين السابقين.
إضافة إلى ذلك، ساهمت نهاية الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفييتي في تسريع هذا التراجع. فقد أدى انهيار النظام الشيوعي إلى تراجع الجاذبية الأيديولوجية التي كانت تحرك العديد من هذه الحركات، لا سيما تلك المرتبطة باليسار المتطرف مثل الجيش الأحمر والألوية الحمراء.
التحول إلى الإرهاب الإسلامي (الألفية الجديدة)
مع دخول القرن الحادي والعشرين، تحول مشهد الإرهاب في أوروبا بشكل ملحوظ. بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة، أصبحت أوروبا هدفًا رئيسيًا للجماعات الإسلامية المتطرفة، مثل القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش). استهدفت هذه الجماعات المدن الأوروبية الكبرى في هجمات واسعة النطاق:
تفجيرات مدريد 2004 التي نفذتها خلايا مرتبطة بالقاعدة، وأدت إلى مقتل 191 شخصًا.
تفجيرات لندن 2005 التي استهدفت شبكة النقل العام في العاصمة البريطانية وأوقعت 52 قتيلًا.
هجمات باريس 2015 التي شملت سلسلة من التفجيرات وإطلاق النار، بما في ذلك الهجوم على مسرح باتاكلان، مما أدى إلى مقتل 130 شخصًا.
مشهد الحركات الإرهابية في أوروبا الغربية في أفق 2030
بحلول عام 2030، قد يشهد مشهد الحركات الإرهابية في أوروبا الغربية تحولات كبيرة بفعل التطورات التكنولوجية والجيوسياسية. من المتوقع أن تزداد الهجمات المنفردة أو “الذئاب المنفردة” مع تراجع قدرة الجماعات الكبيرة على التنظيم بسبب الضغوط الأمنية. كما قد يشكل الإرهاب السيبراني تهديدًا متزايدًا، حيث يمكن للجماعات الإرهابية استهداف البنية التحتية الحيوية عبر الإنترنت، إضافة إلى إمكانية استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي والطائرات بدون طيار في تنفيذ هجمات دقيقة. علاوة على ذلك، يظل الإرهاب البيولوجي والكيميائي من المخاطر المحتملة بحلول 2030، مع إمكانية استخدام أسلحة بيولوجية أو كيميائية في هجمات على نطاق واسع. بجانب ذلك، قد تشهد أوروبا صعودًا للتطرف اليميني مع تفاقم التوترات الاجتماعية والاقتصادية، ما يؤدي إلى زيادة الهجمات ضد الأقليات والمهاجرين. من الناحية الأمنية، ستعزز الحكومات الأوروبية سياسات مكافحة الإرهاب من خلال التعاون الاستخباراتي والمراقبة الرقمية، لمواجهة التهديدات المتزايدة والمعقدة التي تلوح في الأفق.
خلاصة :
تختلف برامج الحركات المسلحة الإرهابية في أوروبا الغربية من حيث الأهداف والأساليب، إلا أنها تشترك في استخدامها للعنف كوسيلة لتحقيق تغيير سياسي. بينما نجحت بعض الحركات القومية في تحقيق أهدافها من خلال المفاوضات السياسية، فشلت الحركات الأيديولوجية اليسارية في تحقيق ثوراتها، في حين لا تزال الجماعات الدينية المتطرفة تمثل تحديًا أمنيًا كبيرًا في الوقت