إعداد صبرين العجرودي: قسم البحوث والدراسات الاستراتجية والعلاقات الدولية 11-09-2024
في عصرنا الحالي، أثبتت جائحة فيروس كورونا وظهور جدرى القردة في الآونة الأخيرة أن الأوبئة البيولوجية لا تزال تشكل تهديدات كبيرة للأمن الصحي العالمي. حيث أظهر فيروس كورونا، الذي اجتاح العالم منذ أواخر 2019، كيف يمكن لفيروس غير مرئي أن يتسبب في أزمة صحية شاملة تؤثر على جميع جوانب الحياة البشرية، من الصحة العامة إلى الاقتصاد.
وقد سلط جدري القردة، الذي شهد انتشاراً ملحوظاً مؤخراً، الضوء على تعقيدات التعامل مع الأمراض المعدية الجديدة وتداعياتها على الأنظمة الصحية العالمية.
في هذا السياق، يصبح من الضروري فهم مفهوم الحرب البيولوجية، الذي يمثل نوعاً من الصراعات يعتمد على استخدام الكائنات الدقيقة أو المواد السامة المستخلصة منها كأسلحة، بهدف إلحاق الضرر بالبشر أو الحيوانات أو النباتات. فقد تختلف الحرب البيولوجية عن الأسلحة التقليدية في أنها تعتمد على الانتشار السريع وغير المرئي للعوامل الممرضة، مما يجعلها أداة تدميرية على نطاق واسع.
وتستند الحرب البيولوجية إلى استخدام مسببات الأمراض المعدية أو السموم البيولوجية، مما يؤدي إلى إضعاف قدرة الأفراد على المقاومة، وتأثيرها النفسي القوي من خلال زرع الخوف والهلع نتيجة لصعوبة اكتشافها وعدم القدرة على السيطرة عليها.
وتتطلب مواجهة التهديدات البيولوجية استعدادات متكاملة من الصحة العامة ونظم الوقاية، فضلاً عن الالتزام الصارم بالمعاهدات الدولية التي تحظر استخدام الأسلحة البيولوجية.
في هذا المقال، سنتناول تفاصيل الحرب البيولوجية، تاريخها، أهدافها، وكيف تختلف عن الأسلحة التقليدية، بالإضافة إلى استعراض الاتفاقيات الدولية المحيطة بها والتحديات التي تحول دون منع استخدامها بشكل كامل.
التدمير غير المرئي الذي يعيد تعريف الصراعات العالمية
الحرب البيولوجية هي نوع من الحروب التي تعتمد على استخدام الكائنات الحية الدقيقة أو المواد السامة المستخلصة منها كأسلحة تهدف إلى إلحاق الضرر بالبشر أو الحيوانات أو النباتات. في هذا السياق، تكون الحرب البيولوجية وسيلة غير تقليدية للهجوم، تعتمد على الانتشار السريع وغير المرئي للعوامل الممرضة، مما يجعلها مدمرة بشكل خاص على مستوى واسع. يتميز هذا النوع من الحروب بتأثيره النفسي القوي، حيث يزرع الخوف والهلع نتيجة لصعوبة اكتشافه وعدم القدرة على السيطرة عليه.
عند الحديث عن الحرب البيولوجية، يتم التركيز على توجيه الضرر من خلال إطلاق مسببات الأمراض المعدية أو السموم البيولوجية، وغالباً ما يستهدف هذا النوع من الأسلحة إضعاف قدرة الأفراد على المقاومة من خلال المرض.
يختلف مفهوم الحرب البيولوجية عن الأسلحة التقليدية في أن الضرر لا يكون فورياً أو محدوداً بموقع معين، بل يمكن أن ينتشر مع الوقت والجغرافيا، مما يعقد جهود التصدي له.
كما يشكل هذا النوع من الحروب تهديدًا للأمن الدولي، خاصةً في ظل التطورات المتسارعة في مجال التكنولوجيا الحيوية. يتطلب التصدي لمثل هذه التهديدات استعدادات مكثفة على مستوى الصحة العامة ونظام الوقاية، إضافة إلى تطبيق صارم للمعاهدات الدولية التي تحظر استخدام هذا النوع من الأسلحة.
من جثث الطاعون إلى التكنولوجيا الحديثة: رحلة تطور الحرب البيولوجية عبر العصور
تاريخ الحرب البيولوجية يعود إلى العصور القديمة حيث تم استخدام الأمراض كوسيلة للإضرار بالأعداء.
يُذكر أنّ أولى الإشارات المعروفة لاستخدام هذا النوع من الحرب ظهرت في القرون الوسطى، حين استخدم المغول في القرن الرابع عشر جثث ضحايا الطاعون كسلاح أثناء حصار مدينة كافا. هذا كان إحدى المحاولات الأولى لتسخير الأمراض لتحقيق أهداف عسكرية، حيث ألقيت جثث المصابين فوق أسوار المدينة لإصابة السكان بالأوبئة.
وعلى مر العصور، استخدم البشر الأسلحة البيولوجية بشكل غير مباشر من خلال تلويث مصادر المياه أو نشر الجثث المتحللة في مواقع استراتيجية.
وقد تطرّقت بعض التقارير في القرن الثامن عشر، إلى استخدام البريطانيين للبطانيات الملوثة بفيروس الجدري لإصابة السكان الأصليين في أمريكا الشمالية، ما يعتبر أحد أوائل الأمثلة على استخدام هذه الأسلحة في العصر الحديث.
وقد شهد القرن العشرون تطورًا أكثر تنظيماً لاستخدام الأسلحة البيولوجية مع ظهور العلم الحديث. وبدأت الدول خلال الحرب العالمية الأولى تفكر بشكل جدي في استخدام العوامل البيولوجية مثل الجمرة الخبيثة وغيرها من الأمراض المعدية. ومع تقدم الحرب العالمية الثانية، توسعت اليابان في برامجها السرية لتطوير أسلحة بيولوجية، مستهدفة بها مدنيين وعسكريين على حد سواء، مما أدى إلى تفاقم هذا النوع من الحروب على الساحة الدولية.
الحرب الخفية بدلا عن الحرب المعلنة
تتمحور أهداف الحرب البيولوجية حول إضعاف أو شل قدرات العدو دون الحاجة إلى مواجهات مباشرة أو استخدام القوة العسكرية التقليدية. والهدف الرئيسي من ذلك هو نشر الأمراض والعدوى بين الأفراد، سواء كانوا جنوداً أو مدنيين، لإحداث ضرر واسع النطاق يؤثر على الاقتصاد والبنية التحتية الصحية والقدرات العسكرية للمجتمع المستهدف.
من خلال استهداف البشر، الحيوانات، أو حتى النباتات، يمكن للعوامل البيولوجية أن تدمر الاقتصاد الزراعي، تقطع إمدادات الغذاء، وتخلق حالة من الفوضى التي تعرقل الحياة اليومية.
تعتمد بعض الدول أو الجهات على الحرب البيولوجية بدلاً من الحرب التقليدية لعدة أسباب استراتيجية. أولاً، الأسلحة البيولوجية تكون غير مرئية، وتنتشر بصمت، مما يجعل من الصعب على العدو اكتشاف الهجوم أو تحديد مصدره.
هذا النوع من الهجمات يمكن أن يزرع الخوف والارتباك لدى الدول، مما يؤدي إلى شلل في عملية اتخاذ القرار السياسي والعسكري. ثانيًا، تكلفة تطوير الأسلحة البيولوجية أقل بكثير مقارنة بالأسلحة النووية أو الكيميائية، مما يجعلها وسيلة جذابة للجهات الفاعلة غير الحكومية أو الدول التي تفتقر إلى القدرة على تمويل الجيوش التقليدية الكبيرة.
من ناحية أخرى، يتيح استخدام الحرب البيولوجية للدول تجنب المواجهة المباشرة، حيث يمكنها توجيه ضربات مدمرة دون الحاجة إلى دخول قوات عسكرية على الأرض. وتوفر الأسلحة البيولوجية إمكانية التأثير طويل المدى على الأهداف، لأنها قد تستمر في التأثير لفترات طويلة بعد الهجوم الأولي، خاصة إذا كانت الأمراض المستهدفة قابلة للانتشار بشكل مستمر أو تؤدي إلى تأثيرات متتابعة على الصحة العامة.
أخيرًا، تستخدم الحرب البيولوجية أحيانًا لأسباب سياسية بحتة، حيث تسعى الدول إلى تحقيق الهيمنة من خلال زعزعة استقرار خصومها أو إثارة الأزمات الإنسانية التي يمكن استغلالها في المفاوضات الدولية أو التأثير على الرأي العام العالمي.
أسلحة الأوبئة مقابل القوة النارية: استراتيجيات تأثير غير مرئي
تتمثل مزايا الأسلحة البيولوجية مقارنة بالأسلحة التقليدية بالنسبة لمستخدميها في أنها أقل تكلفة بكثير، حيث يمكن تطويرها في مختبرات صغيرة نسبياً. كما يمكن لهذه الأسلحة أن تنتشر بسرعة عبر الهواء، الماء، أو الغذاء، مما يجعل من الصعب السيطرة عليها بمجرد إطلاقها. إضافةً إلى ذلك، فإن الأسلحة البيولوجية يمكن أن تعمل بشكل غير مرئي، مما يجعل من الصعب اكتشاف الهجوم أو معرفة مصدره، مما يعزز عنصر المفاجأة والرعب. كما يمكن أن تؤدي إلى تأثيرات صحية طويلة الأمد، مثل الأمراض المزمنة أو الطفرات الجينية، مما يسبب تأثيراً مستمراً على الصحة العامة والاقتصاد حتى بعد انتهاء الهجوم الأولي.
تختلف الأسلحة البيولوجية عن الأسلحة التقليدية في طريقة الهجوم، حيث تعتمد الأسلحة البيولوجية على نشر الأمراض والسموم التي تؤثر على الصحة العامة، بينما الأسلحة التقليدية مثل الأسلحة النارية والقنابل تعتمد على التدمير الفيزيائي المباشر للأهداف.
وتؤدي الأسلحة البيولوجية إلى إصابة أو قتل غير مباشر على مدى فترة طويلة، وقد تستمر آثارها لفترة طويلة بعد الهجوم، بينما الأسلحة التقليدية تؤدي إلى تأثير فوري ودمار مباشر، ويكون تأثيرها عادةً قصير الأمد مقارنة بالأسلحة البيولوجية.
في الحرب التقليدية، يمكن التحكم نسبياً في الأضرار وتوجيهها نحو أهداف معينة، أما في الحرب البيولوجية، يكون من الصعب التحكم في مدى انتشار العوامل الممرضة وتأثيرها، مما يزيد من احتمالية التأثير على المدنيين والبيئة، وتتميّز بخاصية السرية بسبب طبيعتها غير المرئية، بينما الأسلحة التقليدية غالباً ما تكون ملحوظة بشكل واضح أثناء استخدامها.
اتفاقيات وبروتوكولات عاجزة أمام الحروب البيولوجية
تعد الاتفاقيات الدولية التي تمنع الحرب البيولوجية جزءاً أساسياً من القانون الدولي الهادف للحد من استخدام الأسلحة ذات الدمار الشامل. هذه الاتفاقيات تركز على منع تطوير، إنتاج، وتخزين الأسلحة البيولوجية، وضمان التزام الدول بالضوابط الأخلاقية والعلمية.
وتتمثّل في التالي:
-
بروتوكول جنيف (1925)
يُعد بروتوكول جنيف أول معاهدة دولية تمنع استخدام الأسلحة الكيميائية والبيولوجية في الحروب. تم اعتماده في 17 يونيو 1925، وجرى تنفيذه في 8 فبراير 1928. ولم يركّز هذا البروتوكول على منع تطوير أو تخزين هذه الأسلحة، بل ركز فقط على حظر استخدامها.
وهو ينص على أن “استخدام الغاز السام أو الأسلحة البيولوجية في الحرب محظور”، ولكنه لا يذكر شيئًا عن التطوير أو التخزين.
تم التصديق على هذا البروتوكول من قبل معظم الدول الكبرى، بما في ذلك الولايات المتحدة، المملكة المتحدة، روسيا، وفرنسا، ولكنه لم يكن شاملاً، حيث لم تصادق بعض الدول عليه في البداية أو تحفظت على بعض بنوده.
-
اتفاقية الأسلحة البيولوجية (1972) ((BWC
تُعد اتفاقية الأسلحة البيولوجية أول معاهدة دولية شاملة تحظر تمامًا تطوير، إنتاج، وتخزين الأسلحة البيولوجية. تم التوقيع على الاتفاقية في 10 أبريل 1972، ودخلت حيز التنفيذ في 26 مارس 1975. وتمنع هذه الاتفاقية جميع أنواع الأسلحة البيولوجية وتُلزم الدول بتدمير مخزوناتها من هذه الأسلحة.
تنص المادة الأولى على أن “كل دولة طرف تتعهد بعدم تطوير أو إنتاج أو تخزين أو الاحتفاظ بأي عوامل بيولوجية أو سموم، مهما كان مصدرها أو طريقة إنتاجها، لأغراض غير سلمية.”
صادقت 183 دولة على الاتفاقية حتى عام 2023، بما في ذلك الولايات المتحدة، الصين، روسيا، والمملكة المتحدة. في المقابل لم توقع كل من إسرائيل وجنوب السودان، وهو ما يثير قلقًا دوليًا بشأن إمكانية تطوير أو استخدام هذه الأسلحة من قبل هذه الدول.
-
قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1540 (2004)
صدر هذا القرار في 28 أبريل 2004، ويهدف إلى منع وصول الأسلحة النووية، الكيميائية، والبيولوجية إلى الجماعات غير الحكومية. يلزم القرار جميع الدول باتخاذ تدابير صارمة لمنع انتشار أسلحة الدمار الشامل، حيث يطلب من الدول “اتخاذ وتشديد القوانين لمنع تطوير أو نقل الأسلحة البيولوجية إلى جهات فاعلة غير حكومية.“
يُعتبر القرار ملزماً لجميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، مما يعني أن 193 دولة ملتزمة به بشكل رسمي.
-
اتفاقية الأسلحة الكيميائية (CWC) (1993)
على الرغم من أنها تركز على الأسلحة الكيميائية، فإن هذه الاتفاقية لها صلة بالأسلحة البيولوجية من حيث أنها تدعو إلى التزام الدول بالضوابط الأخلاقية والعلمية بشأن جميع أنواع أسلحة الدمار الشامل. تم التوقيع عليها في 13 يناير 1993، ودخلت حيز التنفيذ في 29 أبريل 1997.
-
قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة
تصدر الجمعية العامة للأمم المتحدة باستمرار قرارات تدعو إلى تعزيز مراقبة ومنع انتشار الأسلحة البيولوجية. هذه القرارات ليست ملزمة قانونيًا ولكنها تعكس التوجه الدولي نحو رفض هذه الأسلحة.
وتتمثل التحديات الرئيسية التي تواجه الاتفاقيات الدولية لمنع الحرب البيولوجية في صعوبة التحقق من الامتثال، إذ يمكن تطوير الأسلحة البيولوجية في مختبرات صغيرة دون الحاجة إلى بنية تحتية ضخمة، مما يجعل اكتشافها صعباً.
ذلك الى جانب غياب آلية تفتيش فعالة في اتفاقية الأسلحة البيولوجية (BWC) ممّا يزيد من تعقيد مراقبة الدول، حيث تعتمد الاتفاقية على التعاون الطوعي. بالإضافة إلى ذلك، هناك دول لم توقع أو تصادق على هذه الاتفاقيات، مثل إسرائيل وكوريا الشمالية، مما يثير القلق بشأن برامج سرية محتملة.
كذلك التطور السريع في التكنولوجيا الحيوية، بما في ذلك تقنيات تحرير الجينات (CRISPR)، يضيف تحدياً آخر، إذ يمكن استخدامه لتطوير أسلحة بيولوجية جديدة وأكثر دقة، تجعل من الصعب اكتشافها أو التعامل معها. كما أن خطر وصول هذه الأسلحة إلى الجماعات الإرهابية كبير، حيث يمكن تصنيع العوامل البيولوجية بتكلفة منخفضة، ما يجعلها جذابة للجماعات التي تسعى إلى تنفيذ هجمات.
بالإضافة إلى ذلك، يُعتقد أن بعض الدول تستمر في تطوير برامج سرية للأسلحة البيولوجية على الرغم من التزاماتها الدولية، ما يفاقم المخاوف. هناك أيضاً نقص في الاستعداد الدولي لمواجهة تفشي الأمراض البيولوجية، كما ظهر خلال جائحة كوفيد-19، حيث تم الكشف عن ثغرات في أنظمة الصحة العامة العالمية. أخيراً، الحفاظ على الأمن البيولوجي في مختبرات الأبحاث يشكل تحدياً آخر، إذ يمكن أن تتسرب العوامل البيولوجية أو تُستهدف للهجمات.
الخلاصة:
تُعَدّ الحرب البيولوجية أحد أكثر الأساليب تدميراً التي قد تلجأ إليها الأطراف المتنازعة في النزاعات الحديثة، حيث تعتمد على استخدام الكائنات الدقيقة أو السموم لإحداث أضرار واسعة النطاق بصمت. إن قدرة هذه الأسلحة على الانتشار غير المرئي وتأثيرها المدمر على الصحة العامة والاقتصاد يجعلها وسيلة جذابة للأطراف التي تبحث عن بدائل للأسلحة التقليدية.
رغم وجود اتفاقيات دولية مثل بروتوكول جنيف واتفاقية الأسلحة البيولوجية التي تهدف إلى حظر استخدام وتطوير هذه الأسلحة، فإن التحديات الكبيرة المتعلقة بالتحقق من الامتثال، التطورات التكنولوجية، وعدم توقيع بعض الدول على الاتفاقيات، تجعل من الصعب تنفيذ هذه القوانين بفعالية.
كيف يمكن تعزيز فعالية الاتفاقيات الدولية لمنع استخدام الأسلحة البيولوجية؟
وما هي الخطوات اللازمة لمواجهة التهديدات البيولوجية المتزايدة في ظل التطورات التكنولوجية السريعة؟