الأربعاء. أكتوبر 30th, 2024

طوال عقود الصراع العربي الإسرائيلي، تحمل التصريحات الأمريكية الازدواجية في التصريحات والأفعال فعلى المستوى الخطابي والكلام “الفارغ”، تُظهر الولايات المتحدة رغبة في التهدئة أو في وقف التصعيد والتمدد، أو مثلًا تدعم حلّ الدولتين قولا وليس فعلا.

بينما في الواقع تدعم الإدارة الأمريكية الكيان الاسرائيلي بشتى الوسائل في رغباته أو أهدافه في أي تصعيد عسكريًا كان أو سياسيًا وتعطي للكيان الصهيوني كل التبريرات والحق أما الجانب الفلسطسني فليس له أي حق في العقيدة الأمريكية.

هذا التناقض بين الأقوال والأفعال ليس بجديد على استراتيجية اعتمدتها الولايات المتحدة في جميع صراعاتها على النفوذ فالخطاب المزدوج والتضليل والتلاعب هو منهجها منها تبقي على صورتها التي أصبحت مفضوحة اليوم ولم تعد تنطلي على النخب والشعوب العالمية. فهي تبعث برسائل السلام وحقوق الإنسان والديمقراطية وحقوق الشعوب من جهة، ومن جهة أخرى فإن غاية الهيمنة وتحقيق المصالح تبرر وسيلة العمليات النفسية، بهدف تجنب الانتقادات التي أصبحت تطالها من الخارج وحتى من الداخل الأمريكي وبالرغم من كل هذه التغيرات التي تدركها واشنطن لكنها لا تزال تعتمد على وسائل تضليل الطرف الآخر من خلال “قوة الكلمة” والخطابات المنمّقة والغامضة وخاصة خطابات تحمل الكثير من التأويلات والقراءات.

على مدى عقود، عبّر المسؤولون الأمريكيون عن دعمهم المطلق من دون شرط ولا قيد للدولة الصهيونية وفي نفس الوقت لحلّ الدولتين باستمرار.

وطبعا هذا كلام بالنسبة لفلسطين وكلام وفعل بالنسبة للكيان الاحتلال ولهذا تمّ توجيه الانتقادات الكبيرة للبيت الأبيض وذلك لعدم اتخاذها خطوات ملموسة للضغط على إسرائيل لوقف بناء المستوطنات أو تغيير سياستها تجاه الفلسطينيين.

 ويصل اليوم الوضع الى الأسوأ مع حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة، التي ترفض حل الدولتين، ولا تقبل حتى بالسلطة الفلسطينية الخاضعة لها، كما أنّ العمل على تنفيذ الخطط الاستيطانية للسيطرة الكاملة على الضفة جارٍ على قدم وساق والولايات المتحدة لا تفعل شيء سوى أنها تسوّق الى خطابات متحيّزة مفضوحة، بل أكثر فقد تمّ إستقبال الإرهابي نتنياهو في الكونغرس بالتصفيق لأنه بقوم بإبادة الشعب الفلسطيني بدم بارد وبسلاح أمريكي ومرتزقة أمريكيين ومستشارين عسكريين بعثت بهم واشنطن لقتل الأبرياء.

فهل تغير سلوك الولايات المتحدة مع الدول أن تسمح لحكومات أن تصل إلى السلطة قبل الموافقة على مشروعها السياسي؟

ماذا عن تفنن الولايات المتحدة في تصريحاتها بالدور الإنساني في النزاعات، ووقوفها مع الكيان الصهيوني الذي ينتهك كل الأعراف الإنسانية ويقوم بالمآسي الإنسانية عسكريًا وسياسيًا بل وتدعمه؟.

ما هي الرسائل الأمريكية التي توحي بـ “حاجة الولايات المتحدة إلى وقف الحرب في قطاع غزة، خوفًا من الانفجار الإقليمي الكبير، وتفاديًا لتأثيرها على الانتخابات الأمريكية”؟

حرب استنزاف ومماطلة 

الولايات المتحدة ليست مستعدة لحرب استنزاف جديدة في فترة حرجة من أزمتها الاقتصادية، وفي وقت حرج بضغوط انتخابية كبيرة على الإدارة الديموقراطيةـ بسبب الحرب على غزة. ما دفع الكثير من المحللين لتكرار هذا الإيحاء وتوظيفه في تحليل السلوك الأمريكي واعتماد سياسة التضليل الخطابي وخاصة التلاعب المفردات والجمل المفيدة والغير مفودية وخاصة الضبابية في الخطاب.

يبعث الأمريكان رسائل مفخخة وضبابية وفي ظاهرها رسائل متخفية بالمنطق والواقعية، وهي من أخطر الرسائل التي تتفنن فيها الخبرات السياسية الأمريكية، وعندما تأتي في حالات الصراع والفوضى السياسية وعدم اليقين، يجب إعادة تقييمها وقراءتها لدى كل سلوك أو تصرف متناقض، خاصة إذا كانت متكررة وقد تمّ الإغراق الإعلامي بها وهذا تصرف أمريكي  صهيوني يتقنونه وبشدّة.

أولًا: تفكيك الرسالة المضللة والضبابية الأمريكية

الخوف من الانفجار الكبير:

كل المعطيات تشير إلى احتمال انزلاق الحرب على غزة إلى مستوى أكبر قد يؤدي إلى تداعيات إقليمية أو حتى دولية وكل الأبواب مفتوحة وبشرارة صغيرة تنفجر الأوضاع. واستمرار الحرب يمكن أن يشعل نزاعات أوسع في المنطقة، لكن الواقع أنها مستمرة بالدعم الكامل لإسرائيل في هذه الحرب دون أن ينقص منه شيئًا، بل إنها تتصدى شخصيًا لكل من يتحدث بأنه جاهز للتصعيد ولكن إسرائيل عندما تذهب الى التصعيد بأتي الخطاب الأمريكي الى “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها” والبقية ليس لم الحق حتى للتصدي للتجاوزات والاختراقات.

تأثير الحرب في غزّة على الانتخابات الأمريكية:

 الديمقراطيون في الولايات المتحدة الأمريكية يريدون تجنب التأثير السلبي على حملاتهم الانتخابية أمام الجمهوري الصاعد بقوة دونالد ترامب، بسبب قضايا حقوق الإنسان والقيم الأمريكية “المدعاة”، بالإضافة إلى الناخبين الذين لا يرغبون توريط بلادهم في صراعات دولية جديدة. لكن إدارة بايدن في الواقع تعمل على دعم أهداف استراتيجية تتماشى مع مصالحها في المنطقة.

ثانيًا: التكتيك الأمريكي لحقيقة الرسائل

– تكتيك الغموض:

تكتيك طالما مارسته الإدارات الأمريكية المختلفة في تضليل الخصوم في سياساتها الخارجية لتحقيق أهدافها الاستراتيجية بما يسمى لبرغماتية المضللة والسلبية، بحيث يصبح من الصعب التنبؤ بخطوتها التالية.

يتجلى هذا التكتيك بوضوح في سياق التضليل المتعلق بالحرب على غزة كما أوضحنا في الطرح السابق. هذا التناقض يتيح لها الحفاظ على صورة وسيط السلام، مع إبقاء الحرب في مستوى يحقق أهدافها، وعلى رأسها استعادة التفوق الإسرائيلي في المنطقة باعتبارها الظهير الأول للهيمنة الأمريكية فبايدن قالها بوضوح “لو لم توجد اشرائيل لأوجدتها”.

– المرونة التكتيكية:

الواقع أن الولايات المتحدة تتقن لعبة حافة الهاوية وخاصة في الشرق الأوسط، حيث تبرز على رأس سياستها الخارجية في المنطقة مرونة تكتيكية يتم التضليل من خلالها، التحكم بخيوط اللعبة، سواء عبر ساسة الإرغام وسياسة الردع المرن والخشن أو التدخل العسكري أو الدبلوماسي.

وذلك لضبط قانون التوازن بين تحقيق أهدافها الاستراتيجية، والحفاظ على دعم محلي ودولي من خلال قرارات يتم اتخاذها بحسب الحاجة التكتيكية.

تكتيكيًا، تحتاج اسرائيل إلى القضاء المقاومة في الشرق الأوسط وخاصة المقاومة الفلسطينية “حماس” والمقاومة اللبنانية “حزب الله” حتى تتمكن من الحفاظ على تفوقها الإقليمي أمام تعاظم قوة محور المقاومة وجبهات الإسناد، وبالتالي فإن مصلحة الولايات المتحدة هي في استمرار الحرب حتى تحقيق هذا الهدف. وهو ما يفسر سلوكها المتناقض على الرغم من منطقية وواقعية الرسالة أعلاه.

ثالثًا: الولايات المتحدة قوية في توظيف السياقات والتضليل

–  التضليل الميداني:

مثل إعلان الولايات المتحدة عن إرسال حاملات الطائرات إلى المنطقة، مما يظهر تباينًا بين الرسالة الظاهرية “الرغبة في وقف الحرب” والهدف الفعلي “تعزيز السيطرة والردع”.

– التضليل السياسي:

على المستوى الداخلي يُستخدم التضليل هنا لتمرير السياسات القائمة على المصالح الانتخابية. أما الأهم وهو الهدف الذي نريد أن نصل إليه في هذا التحليل، هو تضليل أعدائها في المنطقة بأنها تتشارك نفس الفكرة والهدف من “إسرائيل” وهو استمرار الحرب حتى القضاء على المقاومة مهما كلف الثمن، وتتولى الولايات المتحدة لعب دور المايسترو بتحقيق الهدف دون الانجرار إلى حرب أو تصعيد أوسع في المنطقة.

– التضليل الإعلامي:

إظهار مرونة في التعامل مع الرأي العام وتقديم خطاب أخلاقي أو “إنساني” من قبل السياسيين بهدف تهدئة الرأي العام دون التأثير على الأهداف الاستراتيجية، كما أنّ التركيز على “الخوف من الانفجار الكبير” قد يكون أسلوبًا لإضفاء طابع المسؤولية على موقف الولايات المتحدة، بينما في الواقع تستمر في دعم العمليات العسكرية الإسرائيلية.

رابعًا: مكافحة التضليل كشف نوايا العدو الصهيوامريكي

الرسائل التي تعتمد على الإيحاء والمستندة إلى وقائع قد تبدو للوهلة الأولى صادقة، لكنها في الواقع تهدف إلى تضليل المحللين وتشتيت انتباههم ومنها يقع المختص في ريبة وبين التكذيب والتصديق والتشتت.

بهدف الحصول على التحليل الدقيق وكشف نوايا العدو الحقيقية، يمكن اعتماد مجموعة من التقنيات تساعد على التحضير الفعلي للمواجهة والتصدي لأي محاولات تضليلية:

1- تحليل السياق الموضوعي:

 لرفع مستوى الوعي بين المحللين والقادة حول وجود رسائل خادعة قائمة على الواقع، يمكن تحليل أنماط سلوك العدو السابقة وتوقعاته المستقبلية قبل تبني الرسالة أو التحليل بناءً عليها، وهذه الخطوة هي مسألة ضرورية.

2- تحليل السياق التاريخي

مراقبة إذا كان العدو قد استخدم استراتيجيات تضليل مشابهة في الماضي، فمن البديهي التشكيك في رسائله الحالية.

3- تحليل الظرفية الواقعية:

فحص التوقيت الذي تصل فيه الرسالة وتحليل الظروف السياسية أو العسكرية المحيطة بها. غالباً ما تكون الرسائل المضللة جزءًا من تكتيك لحرف الانتباه أو تخفيف الضغط.

4- تحليل التكاليف التي يتحمّلها العدو والتهديدات:

فهم النوايا الفعلية يتطلب مراقبة الأنشطة على الأرض وليس الاعتماد فقط على التصريحات وما هو ظاهر على السطح. يتمثل هذا التحليل في تقييم التكاليف التي يتحملها العدو والمخاطر المحتملة التي يواجهها عند اتخاذه خطوات معينة في الصراع، مثل الكلفة العسكرية والكلفة الاقتصادية، والمخاطر السياسية والاستراتيجية التي من شأنها أن تؤدي إلى فقدان القدرة على التأثير وفقدان المكانة، إذا فشل العدو في تحقيق أهدافه.

5- الرسائل المضادة:

بينما تدعو الولايات المتحدة إلى وقف التصعيد في غزة وتروج لجهود إنسانية ودبلوماسية، فإن الهدف الأساسي من سياساتها على الأرض هو دعم الكيان في القضاء على المقاومة الفلسطينية.

وعليه فإن إرسال حاملات الطائرات، وتوفير الدعم العسكري المستمر، وتسليح إسرائيل بالقنابل والمعدات الحديثة ليس إلا خطوات تهدف إلى إضعاف المقاومة وجبهات الإسناد.

 تعمل واشنطن على تبرير هذه الإجراءات تحت غطاء تحقيق السلام، بينما الهدف الخفي هو القضاء على المقاومة في غزة وتعزيز هيمنتها على المنطقة.

الخلاصة:

إن دراسة الاستراتيجيات والعودة إلى الوقائع التاريخية والسلوك الذي تعتمده الولايات المتحدة عبر تاريخها مع الدعم الغير المشروط للكيان الصهيوني، هو مسألة في غاية الأهمية لمكافحة التضليل خاصة في الرسائل المتخفية الأكثر خطورة مثل الرسائل منذ 7 أكتوبر الى اليوم.

فمثلا عندما تنجح رسالة مقترح المفاوضات لوقف إطلاق النار، في التضليل فإن هذا يعني أن نستبعد أن الولايات المتحدة متورطة فعلًا في خطة القضاء على حماس طبعا هذا استنتاج للأغبياء فقط.

وبالتالي يؤثر ذلك على توقعات نجاح المفاوضات في الوقت الذي لا توجد فيه أي نية لإنجاحها واستمرار التعامل مع حماس كقوة فاعلة على الأرض، كما أن الأمر لن ينتهي بكسر حماس، بل سيتعداه إلى جميع أضلاع محور المقاومة وهي غاية الولايات المتحدة الأمريكية فبل كيان الإحتلال الصهيوني.

وعليه فإن الولايات المتحدة متورطة فعلًا بحرب استنزاف ناعمة متخفية ضدّ محور المقاومة بتحريك لاعبين إقليمين تحت هيمنتها.

By amine

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *