الأربعاء. أكتوبر 30th, 2024

في خطوة تعكس تحولات كبيرة في السياسة العسكرية الأمريكية تجاه إفريقيا، قررت الولايات المتحدة تدشين قاعدة عسكرية جديدة في ساحل العاج. هذا القرار جاء في ظل تزايد التحديات الأمنية والجيوسياسية في غرب إفريقيا، حيث تسعى واشنطن إلى تعزيز وجودها العسكري في منطقة تشهد صراعات متزايدة وتأثيرات متباينة من القوى العالمية.

شهدت منطقة غرب إفريقيا اهتمامًا متزايدًا من الولايات المتحدة الأمريكية خلال السنوات الأخيرة، وبرز ذلك بشكل واضح من خلال قرارها بتدشين قاعدة عسكرية جديدة في ساحل العاج. ويعكس هذا التحرك مجموعة من الأسباب والدوافع التي ترتبط بشكل وثيق بالتحولات الجيوسياسية والأمنية في المنطقة.

حيث تشكل منطقة غرب إفريقيا أهمية استراتيجية كبرى بالنسبة للولايات المتحدة نظراً لموقعها الجغرافي المميز. إذ تقع هذه المنطقة عند ملتقى الطرق بين أوروبا وأمريكا اللاتينية وإفريقيا، مما يجعلها نقطة ارتكاز حيوية للتحكم في حركة النقل البحري والتجارة العالمية. ومن خلال تأسيس قاعدة عسكرية في ساحل العاج، تستطيع الولايات المتحدة تأمين مصالحها في هذه المنطقة ومراقبة الأنشطة التجارية والعسكرية التي قد تشكل تهديداً لمصالحها الاستراتيجية.

ثانياً، تعاني منطقة غرب إفريقيا من تصاعد التهديدات الأمنية، وخاصةً تلك المتعلقة بالجماعات الإرهابية والتنظيمات المسلحة. تُعَدُّ دول مثل مالي والنيجر ونيجيريا ساحاتٍ رئيسية لنشاط الجماعات المتطرفة التي ترتبط بشبكات دولية، وهو ما يمثل تهديداً مباشراً للاستقرار الإقليمي والدولي. ومن هذا المنطلق، ترى الولايات المتحدة في إقامة قاعدة عسكرية في ساحل العاج وسيلة فعالة لتعزيز جهودها في مكافحة الإرهاب وضمان استقرار المنطقة. إن تواجد القوات الأمريكية بالقرب من بؤر التوتر سيمكنها من التحرك بسرعة وفعالية للتصدي لأي تهديد أمني محتمل.

علاوة على ذلك، تسعى الولايات المتحدة لتعزيز علاقاتها مع الدول الإفريقية من خلال تعزيز التعاون العسكري.

ويعتبر تدشين القاعدة في ساحل العاج جزءًا من استراتيجية أوسع تهدف إلى بناء شراكات قوية مع الدول الإفريقية، ليس فقط على المستوى العسكري، ولكن أيضًا على المستويات الاقتصادية والسياسية. هذه الشراكات تساعد في تعزيز نفوذ الولايات المتحدة في القارة الإفريقية وتوفير قاعدة متقدمة لتعزيز برامج المساعدات والتدريبات العسكرية التي تستهدف رفع كفاءة جيوش المنطقة.

لا يمكن أيضاً إغفال الدور الصيني المتنامي في إفريقيا كعامل محفز لهذا التحرك الأمريكي. حيث تمكنت الصين من بناء شبكة واسعة من العلاقات الاقتصادية والاستثمارات الاستراتيجية في مختلف دول القارة، مما دفع الولايات المتحدة إلى إعادة تقييم موقفها وتعزيز وجودها في المناطق الحيوية. من خلال إقامة قاعدة عسكرية في ساحل العاج، تسعى الولايات المتحدة إلى مواجهة النفوذ الصيني المتزايد وضمان أن تكون لاعباً رئيسياً في التوازنات الجيوسياسية في إفريقي، والتصدي للتوسع الروسي في المنطقة، خاصة بعد تقديم روسيا الدعم لقادة الانقلابات الأخيرة، بالإضافة إلى تزويدهم بالأسلحة. كما أن وجود قوات مجموعة فاغنر، ثم استبدالها بالفيلق الروسي الجديد في العديد من دول المنطقة، يشكل تهديدًا مباشرًا للمصالح الأمريكية.

أيضا يمكن النظر إلى هذا التحرك الأمريكي على أنه جزء من استراتيجية أوسع لمواجهة التحديات العالمية. إن إقامة قاعدة عسكرية في منطقة ساحل العاج لا يقتصر فقط على مواجهة التهديدات المحلية، بل يعكس أيضاً رغبة الولايات المتحدة في تأمين مواقع استراتيجية حول العالم تمكنها من التحرك بسرعة ومرونة في مواجهة الأزمات الدولية.

كذلك الرغبة في سد الفجوة الاستراتيجية الناجمة عن انسحاب فرنسا من المنطقة، فبعد مغادرتها لكل من مالي، بوركينا فاسو، والنيجر، تتجه فرنسا أيضًا نحو تقليص وجودها العسكري بشكل ملحوظ في قواعدها بكل من الغابون وتشاد “وسط إفريقيا”، وكذلك السنغال وساحل العاج “غرب إفريقيا”، مع الإبقاء على وجودها في جيبوتي “شرق القارة”. في هذا السياق، قدّم جان ماري، المبعوث الخاص للرئيس ماكرون إلى إفريقيا، توصياته حول هذا الأمر للرئيس في يوليو الماضي. نتيجة لذلك، أعرب قائد القيادة الأمريكية في إفريقيا (أفريكوم) عن قلقه في خطاب ألقاه أمام الكونغرس في مارس الماضي بشأن تراجع وجود حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، خصوصًا بعد انسحاب الأمم المتحدة من مالي وجمهورية الكونغو الديمقراطية.

وبالتالي يمكن القول إن قرار الولايات المتحدة بتدشين قاعدة عسكرية في ساحل العاج يأتي في إطار مجموعة من الأسباب المعقدة والمتشابكة، التي تتراوح بين الاعتبارات الاستراتيجية والأمنية إلى السعي لتعزيز النفوذ في مواجهة المنافسين الدوليين. هذا التحرك يشير إلى تزايد أهمية إفريقيا في السياسة الخارجية الأمريكية وإلى تعقيد التحديات التي تواجهها في تأمين مصالحها على الصعيد العالمي.

بعد أن ألغت السلطات الانقلابية في النيجر الاتفاقية العسكرية مع الولايات المتحدة في مارس، أصبحت واشنطن بحاجة إلى إيجاد بدائل استراتيجية للحفاظ على نفوذها العسكري في منطقة الساحل.

كانت القواعد العسكرية الأمريكية في النيجر، مثل قاعدة “أغاديز”، مهمة بشكل خاص لعمليات المراقبة والاستطلاع ومكافحة الإرهاب في المنطقة. ولكن مع فقدان هذه القواعد، تواجه الولايات المتحدة تحديات في تنفيذ هذه المهام الحيوية. لذلك، جاء قرار تدشين قاعدة جديدة في ساحل العاج كجزء من الجهود الأمريكية لتعويض هذا الفقدان الاستراتيجي وضمان استمرار قدرتها على مراقبة الأنشطة الأمنية في غرب إفريقيا والتصدي للتهديدات الإرهابية.

بالإضافة إلى ذلك، فإن التحركات الأمريكية في ساحل العاج تأتي في إطار رد فعل على التغيرات في التواجد العسكري الفرنسي في المنطقة، مما يدفع الولايات المتحدة إلى تعزيز وجودها لمواجهة التحديات الأمنية التي باتت أكثر تعقيدًا في ظل تزايد النفوذ الروسي والصيني في إفريقيا.

وتشير التحليلات العسكرية الى أنّ أغلب عمليات الجماعات المسلحة تجري في المنطقة ضمن نطاق مسيرات MQ-9 Reaper الأمريكية، التي تنطلق من النيجر وتبلغ مسافتها 1150 ميلًا. في المقابل، تقع القاعدة الجديدة في أودين على مسافة أبعد من مركز هذه العمليات، بالقرب من المنطقة الحدودية الثلاثية بين بوركينا فاسو ومالي والنيجر، مما سيؤدي إلى زيادة زمن العبور. إضافة إلى ذلك، فإن تزويد روسيا للنيجر بأنظمة مضادة للطائرات قد يمكنها من إسقاط هذه المسيرات الأمريكية إذا لم تُمنح الإذن بالتحليق.

By amine

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *