السبت. نوفمبر 23rd, 2024

في خضم تصاعد التوترات الجيوسياسية في منطقة الساحل، اتهم رئيس وزراء بوركينا فاسو، “أبولينير جواشيمسون كيليم دي تمبيلا”، فرنسا بالتآمر مع بنين وساحل العاج لزعزعة استقرار بلاده. تأتي هذه الاتهامات وسط موجة متزايدة من المشاعر المعادية لفرنسا، مما يعكس حالة من القلق والانقسام في العلاقات بين البلدين. هذه التوترات تعيد إلى الأذهان الصراعات القديمة والمستجدة في منطقة الساحل، حيث تكافح الدول لاحتواء التهديدات المتصاعدة من الجماعات المسلحة المتطرفة، مما يجعل الوضع أكثر تعقيداً للمجتمع الدولي والإقليمي على حد سواء.

لطالما كانت العلاقات بين بوركينا فاسو وفرنسا معقدة ومتشابكة عبر فترات تاريخية متعددة. بدأت هذه العلاقة في أواخر القرن التاسع عشر عندما أصبحت بوركينا فاسو مستعمرة فرنسية، حيث فرضت فرنسا نظامًا اقتصاديًا واجتماعيًا مركزيًا واستغلت موارد البلاد، خاصة في الزراعة، مع التركيز على المحاصيل النقدية مثل القطن والفول السوداني. هذه السياسات الاستعمارية أثرت بعمق على البنية الاقتصادية والاجتماعية في بوركينا فاسو.

بعد استقلال بوركينا فاسو في عام 1960، بدأت البلاد في بناء الدولة وتعزيز هويتها الوطنية. قدمت فرنسا دعمًا كبيرًا في مجالات التعليم والبنية التحتية والتنمية الاقتصادية، ولكنها احتفظت بنفوذها الثقافي من خلال اعتماد اللغة الفرنسية كلغة رسمية وثقافية.

فترة حكم توماس سانكارا (1983-1987) كانت نقطة تحول في العلاقات بين البلدين. سعى سانكارا إلى تنفيذ إصلاحات جذرية تهدف إلى تحرير بلاده من التبعية لفرنسا، مما أثار استياء فرنسا التي رأت في هذه الإصلاحات تهديدًا لمصالحها. أدى ذلك إلى توتر العلاقات بين البلدين، رغم ذلك استمرت فرنسا في تقديم دعم اقتصادي محدود.

عندما تولى بليز كومباوري الحكم عام 1987، حاول إعادة بناء العلاقات مع فرنسا. ورغم النجاح النسبي في تعزيز التعاون بين البلدين، لم تتمكن بوركينا فاسو من تجاوز التحديات الداخلية والتوترات السياسية. خلال هذه الفترة، ازدادت التهديدات الأمنية من الجماعات المتطرفة في منطقة الساحل، مما زاد من صعوبة الأوضاع الداخلية.

تعكس هذه العلاقات المتشابكة تاريخًا طويلًا من التفاعلات المعقدة بين بوركينا فاسو وفرنسا، تتأرجح بين الدعم والتوتر، متأثرة بالتحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية داخل وخارج البلاد.

الوضع الحالي في منطقة الساحل صعب ومعقد، حيث يواجه الناس تحديات أمنية وسياسية واقتصادية هائلة. الجماعات المتطرفة مثل القاعدة وداعش تشن هجمات متكررة، مما يجعل الحياة اليومية مليئة بالمخاطر. في عام 2023، شهدت المنطقة أكثر من 4000 هجوم إرهابي، مما أدى إلى فقدان أكثر من 10,000 شخص حياتهم وتشريد مئات الآلاف من منازلهم. السكان يعانون من الصراعات العرقية والجريمة المنظمة التي تزيد من تدهور الأوضاع. الحكومات المحلية تواجه عدم الاستقرار السياسي، مع تكرار الانقلابات العسكرية في مالي وبوركينا فاسو منذ عام 2020. يعيش الكثيرون في فقر مدقع، حيث يعيش أكثر من 40% من السكان تحت خط الفقر، وتصل معدلات البطالة إلى 30% في بعض الدول. الأطفال يعانون بشكل خاص، مع عدم قدرتهم على إكمال تعليمهم وارتفاع معدلات الوفيات بينهم. يفتقر السكان إلى الخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة، حيث يموت 1 من كل 10 أطفال قبل بلوغ سن الخامسة. ورغم الجهود الدولية والإقليمية المبذولة، لا تزال التحديات كبيرة، وتتطلب حلولاً شاملة تشمل تحسين الأمن والتنمية لضمان مستقبل أفضل لسكان المنطقة.

وجه رئيس بوركينا فاسو، إبراهيم تراوري، اتهامات خطيرة إلى فرنسا يزعم تآمرها لزعزعة استقرار بلاده بالتواطؤ مع بنين وساحل العاج. في مقابلة مساء الخميس في العاصمة واغادوغو، أكد تراوري أن لديه أدلة تثبت تورط فرنسا في عمليات تخريبية تديرها من مركز عمليات في أبيدجان، العاصمة الاقتصادية لساحل العاج. وأوضح أن هذه الأدلة تشمل تسجيلات صوتية لعملاء فرنسيين يعملون مع الإرهابيين في بنين، وينظمون العمليات معهم ويساعدونهم. كما أشار تراوري إلى وجود قاعدتين فرنسيتين في بنين تستهدفان بوركينا فاسو، متهماً السلطات في بنين وساحل العاج بدعم هذه الأنشطة.

وقال تراوري، في هذه المقابلة، إنه “ليس لدينا أي شيء ضد الشعب الإيفواري. ولكن لدينا شيء ضد أولئك الذين يحكمون ساحل العاج. نقول ذلك وسنقول مرة أخرى. هناك بالفعل مركز عمليات في أبيدجان لزعزعة استقرار بلادنا”.

في الأشهر الأخيرة، شهدت العلاقات بين ساحل العاج وبوركينا فاسو توترات متزايدة، خاصة على طول الحدود المشتركة بين البلدين. في نهاية مارس 2024، تم اعتقال جندي من بوركينا فاسو ونائب عسكري يرتدي زياً مدنياً في منطقة شمال ساحل العاج بتهمة عبور الحدود بشكل غير قانوني، مما أدى إلى تصاعد التوترات الحدودية والدبلوماسية بين البلدين. بالإضافة إلى ذلك، في 19 سبتمبر 2023، تم اعتقال اثنين من رجال الدرك الايفواريين في بوركينا فاسو، وهما في موقع غير قانوني للتنقيب عن الذهب، ولم يتم إطلاق سراح أي جندي من أي من الجانبين، ولا تزال جهود الوساطة والمفاوضات مستمرة لتسوية هذه القضية الحساسة بين البلدين المجاورين.

وأشار رئيس بوركينا فاسو أنه لديه “مشكلات مع سياسات قادة بنين وساحل العاج”. وأضاف: “لا يمكن لأحد أن يقول لنا إنه لا توجد قواعد فرنسية في بنين موجهة ضدنا. لدينا الأدلة بين أيدينا”. وكشف عن إعادة تطوير مدارج الطائرات إلى أكثر من 3000 متر مربع، حيث يتم تجهيز وتدريب الإرهابيين وفق قوله، وأضاف: “لدينا تسجيلات صوتية، لعملاء فرنسيين في بنين هناك، يلعبون في مراكز عمليات الإرهابيين، وينظمون العمليات معهم، ويساعدونهم في الاعتناء بأنفسهم”، بحسب تعبيره. كما ذكر أنه “سيتم الكشف عن الأدلة” التي تثبت وجود قاعدتين فرنسيتين في بنين تستهدفان بوركينا فاسو، مشيراً إلى أن “المسارات تم وضعها والجنود تم تجهيزهم”.

الاتهامات الموجهة ضد بنين ليست جديدة، إذ سبق أن رُفعت مثل هذه الاتهامات من قبل فقد أغلقت النيجر حدودها مع بنين بعد أن طردت السفير الفرنسي عقب انقلاب جويلية 2023، متهمة بنين بالسماح لقواعد عسكرية فرنسية بالنشاط على أراضيها بهدف” زعزعة استقرار البلاد”.

“ردًا على هذه التصريحات، كتب ويلفريد هونغبيدجي، المتحدث باسم رئاسة جمهورية بنين، على صفحته في فيسبوك أن “الهجمات الإرهابية التي سُجلت في بنين، والتي تمكنت قواتنا الدفاعية والأمنية من إحباط غالبيتها، نُفذت من قبل أشخاص عبروا حدودنا مع بوركينا فاسو والنيجر. واستجابة لهذه التحديات، اتخذت حكومة بنين استراتيجية لمواجهة هذه الظاهرة من خلال إنشاء معسكرات عمليات صغيرة، تُعرف باسم قواعد العمليات الأمامية، في عدد من بلدياتنا الحدودية ابتداءً من عام 2022. ولقد كنا شفافين حول هذه الخطوة منذ أن ألقى الرئيس نفسه كلمة حولها أمام المجلس الوطني في 8 ديسمبر 2022.”

في المقابل، نفى الجيش الفرنسي هذه الاتهامات بشكل قاطع، مؤكداً أنه لا توجد قواعد عسكرية فرنسية في بنين. وذكر في بيانه أن العسكريين الفرنسيين الوحيدين في بنين هم الملحق العسكري وبعض المتعاونين مع وزارة أوروبا والشؤون الخارجية الفرنسية. وأضاف البيان أن “فرنسا لديها خمس قواعد في إفريقيا، وهي في تشاد، السنغال، ساحل العاج، الغابون، وجيبوتي”. وأوضح البيان أنه في بعض الأحيان يتم إرسال “فرق تدريب مؤقتة وقصيرة الأمد” لدعم القوات المسلحة في بنين، بناءً على طلبها.

تأتي هذه الاتهامات في ظل تحالف جديد بين بوركينا فاسو ومالي والنيجر، وهو تحالف معادٍ لفرنسا يسعى لتطوير علاقاته مع روسيا والصين.

تأتي هذه الاتهامات في ظل حساسية كبيرة لمنطقة الساحل الأفريقي، التي تعاني بالفعل من عدم الاستقرار الأمني نتيجة للصراعات المسلحة وتصاعد الأنشطة الإرهابية. إذا استمرت هذه الاتهامات في التصاعد، فقد تؤدي إلى تدهور كبير في العلاقات بين بوركينا فاسو وفرنسا، مما قد يؤثر سلبًا على التعاون الدبلوماسي والعسكري والاقتصادي بين البلدين. قد تؤثر هذه التوترات أيضًا على التعاون الإقليمي، مما يعرقل الجهود المشتركة لتعزيز الاستقرار في المنطقة.

في ظل هذه التوترات، يُصبح هناك حاجة ملحة إلى جهود دبلوماسية مكثفة لبناء الثقة بين الأطراف المعنية. المنظمات الإقليمية والدولية يمكن أن تلعب دورًا رئيسيًا في تسهيل الحوار والمفاوضات لحل الخلافات وتعزيز التفاهم المتبادل. إن تحقيق استقرار طويل الأمد في المنطقة يتطلب تعزيز التعاون بين الدول وتكثيف الجهود لمواجهة التحديات الأمنية والاقتصادية. فإذا تصاعدت هذه الاتهامات إلى أزمة دبلوماسية كاملة، فقد يؤدي ذلك إلى تقليص التعاون العسكري بين بوركينا فاسو وفرنسا، وهو ما قد يؤثر سلبًا على القدرات الأمنية لبوركينا فاسو في مواجهة التهديدات الإرهابية. بالإضافة إلى ذلك، قد تتأثر العلاقات الاقتصادية بين البلدين، حيث يمكن أن تتراجع الاستثمارات الفرنسية في بوركينا فاسو، مما يزيد من التحديات الاقتصادية التي تواجهها البلاد.   على المستوى الإقليمي، قد تؤدي هذه الأزمة إلى تزايد الانقسامات بين الدول الأفريقية وفرنسا، مما قد يعقد جهود التعاون الأمني الإقليمي ويعطي فرصة للجماعات الإرهابية لاستغلال هذه التوترات.

يمكن للمنظمات الإقليمية مثل الاتحاد الأفريقي والمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (ECOWAS) أن تلعب دورًا حاسمًا في تيسير الحوار بين بوركينا فاسو وفرنسا. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للمجتمع الدولي أن يساهم في دعم جهود الوساطة وتعزيز التعاون الأمني والاقتصادي في المنطقة. تعزيز الحوار وبناء الثقة بين الدول المعنية سيكون له تأثير إيجابي على استقرار المنطقة وقدرتها على مواجهة التحديات المشتركة. فالاتهامات التي وجهها الرئيس إبراهيم تراوري ضد فرنسا تضع العلاقات بين بوركينا فاسو وفرنسا على المحك، مما يتطلب إجراء تحقيق شامل ودقيق للتحقق من صحتها.

تعبّر كلمة تراوري عن تأكيد قوي على أهمية الأمن القومي وضرورة مكافحة الإرهاب كأساس للسياسات الحكومية في بوركينا فاسو اليوم. حيث يرفض تراوري بشدة أي تحالف مع الإرهابيين، وفي الوقت نفسه، يسلط الضوء على التزام الحكومة بتنفيذ إجراءات اقتصادية صارمة، مثل فرض ضرائب جديدة على الاتصالات، الاشتراكات التلفزيونية، ومبيعات العقارات. هذه الإجراءات الاقتصادية تهدف إلى تعزيز القدرات الدفاعية للبلاد وتمويل الجهود المستمرة في مكافحة التهديدات الأمنية.

بتأكيده على السيادة الوطنية والمخاوف الأمنية، يوضح تراوري رؤيته القوية لتعزيز الاستقلال الوطني والاستقرار الداخلي. تعد هذه السياسات استجابة فعالة للتحديات السياسية والاقتصادية التي تواجهها بوركينا فاسو حاليًا، وتعكس التزام الحكومة بضمان الأمن والاستقرار للمواطنين والمجتمع.

By amine

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *