الخميس. سبتمبر 19th, 2024

يضطلع قطاع المياه بدور حيوي في التنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة ويمثّل الهدف السادس من أهداف التنمية المستدامة، غير أن الاستثمار في تونس قائم على استنزاف الماء حيث تستهلك الفلاحة وحدها 70% من الموارد المائية كما يستهلك قطاع الصناعة كميات هامة من المياه دون إعادة تدوير المستعمل.

وما يزيد من خطورة هذا الضعف الصارخ في منظومة ادارة المياه والاستثمار، هو أزمة الجفاف والتلوث والفقر المائي التي تمر بها البلاد التونسية منذ سنوات متتالية.

منذ عقود، بدأت تونس في بناء السدود لتعزيز قدرتها على جمع وتخزين الموارد المائية والتحكم في توزيعها لعدة أهداف، فمنها ما هو مخصص لتوليد الطاقة الكهرومائية، ومنها ما يستخدم في الري ومكافحة الفيضانات و التلوث والزراعة وتربية الحيوانات…

تم بناء أول سد رئيسي في  شمال افريقيا في تونس  وهو سد وادي الكبير (70 كلم جنوب شرق العاصمة تونس ) وقد ملئ بالماء في العام 1928 لتوفير المياه للعاصمة.

 وتضم تونس أكثر من 40 سدًا تديره الإدارة العامة للسدود والأشغال المائية الكبرى (DGBGTH)، وبلغت سعتها الإجمالية 2.5 كم3 مع سدود أخرى بلغ عددها 230 سدًا تلّيًا وتتمركزمعظم هذه السدود في الحوض الشمالي من البلاد.

 ارتفعت السعة عمّا كانت عليه في عام 2017، وزادت من 0.8 كيلومتر مكعب في عام 1980 إلى 2.69 كيلومترًا مكعبًا في عام 2019، أي بمعدل نمو سنوي يبلغ 8.11٪.

رغم هذا التحسن النسبي إلا أنّ تونس ضلّت تعاني بصفة دائمة من ندرة المياه، نظرا لمناخها الجاف وشبه الجاف ونتيجة لمجموعة من المخاطر البيئية والإدارية، إذ لا تزال تواجه اليوم العديد من التحدّيات والتغيّرات التي قد تهدّد نجاعة الاستراتيجيّات المعتمدة في إدارة مواردها المائية وتُعرّي جملة النقائص وسوء التقدير والاستغلال المرتكبة من قِبَل الطّرف الاداري والحكومي والاستهلاك العمومي المفرط على حد السّواء بالإضافة إلى زيادة الطلب بسبب النمو السكاني وتوسع النشاطات الزراعية.

يقول خبراء الموارد المائية في هذا السياق ان “الدولة أصبحت تدرك خطورة أزمة المياه في تونس، ولدينا تأخر في الوعي بندرة المياه منذ سنة 1995، وكل الذين تعاقبوا على السلطة لم يكن لهم وعي بالمخاطر المائية”.

كل هذه العوامل تمارس ضغطًا إضافيًا على هذه الموارد المحدودة وتنذر على اهمية وحتميّة اتّخاذ إجراءات واعتماد سياسات جديدة موجهة وصارمة لمقاومة الأزمات المائية المتواصلة التي تمر بها البلاد التونسية بمختلف جهاتها و للنهوض بمنظومة السدود لتخزين وتوزيع المياه.

تدفعنا كل هذه المتغيّرات لطرح مجموعة من التساؤلات والإشكاليات المحورية حول:

تعاني تونس من نقص كبير في الأمطار منذ سبعة مواسم ومن جفاف مستمرّ للعام الرابع على التوالي. ويزيد هذا الأمر من المخاطر التي تحدق بالأمن الغذائي في بلد يعاني أصلاً من ويلات وصعوبات اقتصادية. كما يهدّد الجفاف مناطق عديدة في البلاد، من بينها العاصمة، بالعطش نتيجة تراجع مخزون السدود إلى مستوى غير مسبوق إذ يذكر المسؤول في وزارة الفلاحة حمادي الحبيب أنّ “الوضع خطر جداً بسبب سنوات الجفاف المستمرة… الآن يبلغ منسوب السدود في تونس 25 في المائة من سعتها، فيما وصل في بعضها إلى 10 في المائة فقط”   “فقط 660 مليون متر مكعّب هي كميات المياه في 37 سداً بالبلاد”.

وفق بلاغ وزارة البيئة والشؤون المحليّة، فإن مراقبة نوعيّة المياه في تونس تتم بصفة دقيقة ومتواصلة، كما أن مياه السدود المستخدمة في مجال الرّي ومياه الشرب الموزّعة بعد المرور بسلسلة من عمليّات المعالجة لا تمثّل مصدر خطر على الصحّة العامّة.

كما بينت النتائج المسجلة في مجال متابعة نوعية مياه الشرب، أنّ نوعية المياه الموزّعة عن طريق شبكات الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه تستجيب للمواصفات المعمول بها من الناحيتين الميكروبيولوجية والفيزيوكيميائية ولمواصفات منظمة الصحة العالمية.

في الواقع، تعاني العديد من السدود التونسية من تدهور بيئي كبير وتلوث وسوء العناية حاد مما يفرض تحدّيات عدّة، بما في ذلك زيادة تكلفة عمليات تنقية ومعالجة المياه. كما أن الملوّثات المتراكمة في مياه السدود يمكن أن تسبّب ضررًا للآلات والبنية التحتية المستخدمة في هذه العمليات، مما يؤدي إلى زيادة تكاليف الصيانة والصعوبات التشغيلية.

 لذا، بينما قد يكون المنتج النهائي “مياه الشرب” آمنًا، إلاّ أن المشاكل البيئية الأساسية في السدود تبرز كمجال حيوي يحتاج إلى اهتمام وإصلاح.

تواجه السلطات التونسية اليوم أزمة حادّة في نقص المياه رغم نزول كميات من الأمطار خلال الفترة الماضية. على إثر هذه الأزمة و لمجابهة  الأوضاع الخطرة والتي قد تستمر في التعكر، شرعت الحكومة التونسية في وضع خارطة طريق تقوم على عدة محاور وأهداف من بينها:

 مشاريع تحلية مياه البحر و بناء السدود:

مشاريع تحلية مياه البحر تشهد اليوم تقدما تدريجيا و ملحوظا:

من بين هذه المشاريع نذكر محطة تحلية مياه البحر بالزارات من ولاية قابس التي قام بتدشينها رئيس الجمهورية قيس سعيد يوم الأحد 7 جويلية 2024.

كما توجد 3 محطات لتحلية مياه البحر في طور الإنجاز في كل من قابس وصفاقس وسوسة (ستدخل حيز الاستغلال موفّى سنة 2024) وكشف المصدر ذاته في حوار خاص مع جريدة “الشروق” في عددها الصادر في 5 أفريل 2023، أنه سيتم قريبا الإعلان عن طلب عروض لإنجاز 4 محطات أخرى بكل من توزر وقبلي وسيدي بوزيد وبن قردان.

كما تم الإعلان عن مشاريع إنشاء عدد من السدود في مختلف الولايات (أوشك البعض منها على الانتهاء، على غرار ملاق العلوي الذي تقدمت أشغاله بنسبة 80 في المئة)، وهي المشاريع التي خصصت لها الدولة 8 مليار دينار (حوالي 2.5 مليار دولار).      

هذه المشاريع ستساعد على تدعيم الموارد المائية في البلاد والحد من تأثير التغيرات المناخية.

نظام التقسيط لتوزيع المياه:

إن الوضعية المائية الصعبة في تونس ليست حديثة الظهور ومن مظاهرها السابقة إقرار وزارة الفلاحة التونسية في مارس 2023، نظام الحصص في توزيع مياه الشرب وحجر استعمال المياه الصالحة للشرب الموزعة عبر شبكات الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه للأغراض الفلاحية و لري المساحات الخضراء وتنظيف الشوارع والأماكن العامة وغسيل السيارات… (بدأ العمل به من 31 مارس 2023)

كما تعالت دعوات مواطنية ومن عدد من المختصين للمطالبة بالتخلي عن عدد من الزراعات السقوية خلال هذه الفترة، خاصة تلك “المجهدة مائيًا” والاستفادة من تلك المياه لاستهلاك المواطنين المباشر.

وفي سياق متصل، يواجه مُربُّو الأغنام والأبقار إشكالًا بسبب نقص المياه لمواشيهم، ولذلك انعكاسات على توفّر الأعلاف، مما أدى بالعديد من المزارعين الى التخلي عن آلاف الأبقار، الأمر الذي خلّف تراجعاً كبيراً في إنتاج الحليب الذي اختفى عن رفوف أغلب المتاجر بالإضافة إلى تراجع كميات اللحوم الموجهة للاستهلاك وارتفاع صاروخي لأسعارها

رغم هطول كميات من الأمطار خلال الأشهر الماضية إلا أن المزارعين يخشون إتلاف محاصيلهم الزراعية بسبب احتباس التساقطات في المدة الأخيرة مع ارتفاع درجات الحرارة، وهو ما دفع الحكومة إلى التدخل من خلال تخفيف إجراءات التقشف إذ سمحت وزارة الزراعة التونسية للإدارات الجهوية للزراعة بالانطلاق في ري محاصيل الحبوب بأغلب الجهات.

ورغم السعي لاتخاذ إجراءات تسعى للاستجابة لحاجيات القطاع الفلاحي من جهة و لمحاولة التصدي لمظاهر العجز المائي و الجفاف من جهة اخرى، برزت دعوات المزارعين والمجتمع والسلطات إلى التصدي لظاهرة شائعة و بنفس القدر من الخطورة و هي مسألة حفر الآبار العشوائية.

و من ثم أخيرا في أفريل 2023 أصدرت وزارة الزراعة قرارا يقضي بالحد من استعمال المياه الصالحة للشرب لأغراض زراعية وريّ المساحات الخضراء و غيرها من الاستعمالات المبذرة، والتشبث بالاعتماد على نظام الحصص لتوزيع المياه على السكان. ويرجع هذا القرار أساسا إلى تواتر سنوات الجفاف وضعف الإيرادات في السدود.

وذكر الخبير البيئي عادل الهنتاتي أن “الحكومة التونسية لديها علم بوضعية المياه، والجديد هو أن الظروف المناخية التي خلفت حالة من الجفاف منذ أكثر من 6 سنوات أدت إلى ضرورة اتخاذ هذه الإجراءات”.

من بين الحلول المبتكرة المقترحة عالميًا لتحسين وضع أزمة المياه، والتي قد لا تكون مطروحة للنقاش بعد في تونس، نجد العديد من الأساليب التي تستفيد من التكنولوجيا المتقدمة والابتكار العلمي و التقني.

 هذه الحلول قد تكون مكلفة بالفعل، لكن فوائدها على المدى الطويل حتما تستحق الاستثمار.

تُعد تقنيات النانو أحد الحلول الواعدة في مجال تنقية المياه اذ يمكن استخدام المواد النانوية لإزالة الملوثات الدقيقة والمعادن الثقيلة والبكتيريا من المياه.

هذه التقنيات لا توفر مياه نظيفة فحسب، بل تقلل أيضًا من تكاليف ووقت عمليات التنقية التقليدية، كما يمكن لهذه التكنولوجيا أن تقلل من استهلاك المواد الكيميائية المستخدمة في عمليات التنقية.

تعالج هذه التقنيات مشكلة ندرة المياه في القطاع الزراعي من خلال استخدام كميات أقل من المياه مقارنة بالزراعة التقليدية.

تعتمد الزراعة المائية على نظم مغلقة تعيد تدوير المياه، مما يقلل من الخسائر.

وتوفر الزراعة الرأسية المساحة وتزيد من الإنتاجية لكل متر مربع، مما يجعلها حلاً مثاليًا للمناطق التي تعاني من صغر مساحة الأراضي ونقص في المياه.

تعتمد أنظمة الري الذكية على استخدام التكنولوجيا الحديثة لتحسين كفاءة الري وتوفير المياه.

هذه الأنظمة تستخدم أجهزة استشعار لقياس مستويات رطوبة التربة، ودرجة حرارة الهواء، وحالة الطقس، واحتياجات النباتات ثم ترسل مجموعة المعلومات التي تجمعها هذه الأجهزة إلى وحدة تحكم مركزية، التي تقوم بدورها بتحليل البيانات واتخاذ القرارات حول كميات المياه التي تحتاجها النباتات بالضبط.

يمكن أن تكون تقنيات تحلية المياه باستخدام الطاقة الشمسية أو طاقة الرياح حلاً مستدامًا لتوفير المياه العذبة حيث أن استخدام الطاقة المتجددة يقلل من البصمة الكربونية لعملية التحلية، ويجعلها أكثر كفاءة من الناحية الاقتصادية والبيئية.

يمكن أن تكون هذه الحلول مثالية للمناطق الساحلية التي تعاني من نقص المياه ولكنها تتمتع بوفرة في مصادر الطاقة المتجددة.

يمكن معالجة المياه العادمة لتصبح صالحة للاستخدام في الري والزراعة والصناعة مما يقلل من الضغط على مصادر المياه العذبة ويعزز الاستدامة.

 تقنيات مثل الترشيح الفائق (Ultrafiltration) والتناضح العكسي (Reverse Osmosis) يمكن أن تجعل المياه العادمة المعالجة خيارًا قابلاً للتطبيق.

بعض هذه الحلول قد تتطلب دعمًا حكوميًا وتعاونًا دوليًا إضافة إلى  استثمارات كبيرة ومكلفة  وتطوير للبنية التحتية، لكنها على المدى الطويل، يمكن أن تساهم بشكل هام في حل أو التخفيف من أزمة المياه وتحسين الوضع البيئي للسدود في تونس.

– السيطرة على السوق: تحتكر بعض الشركات الخاصة السوق مما يحد من المنافسة ويزيد من أسعار المياه.

– استنزاف الموارد: تؤدي ممارسات هذه الشركات إلى استنزاف موارد المياه الجوفية عن طريق الحفر المكثف للآبار كما أنها تهيمن على كم هائل من المياه السطحية، مما يمس من الثروة المائية و يقلل من توفر المياه للاستخدامات الأخرى.

عموما، يساهم القطاع الخاص في مجال إنتاج ومعالجة المياه في تونس بشكل هام في تفاقم الأزمة المائية من خلال ممارسات احتكارية و استغلالات مفرطة للموارد، إذ أن الشركات الخاصة، خاصة تلك التي تعمل في تعبئة المياه، تحقق أرباحًا طائلة عبر استنزاف الموارد المائية دون الالتزام بمعايير الاستدامة البيئية، مما يجعل من الضروري إنشاء و تنفيذ سياسات تنظيمية أكثر نجاعة تضمن الاستخدام المستدام والعادل للموارد المائية.

إن التحديات التي تواجه خزانات تونس لا تقتصر على البيئية فقط، بل ترجع إلى عدة ديناميكيات اجتماعية واقتصادية هامة.

هذا ويتطلب الوضع الراهن التعامل الجاد مع الممارسات الضارة والأزمات المتتالية، والعمل الفوري على تعديل وتحسين التشريعات القانونية التي تنظم إدارة واستغلال المياه في القطاعين الخاص والحكومي. بالإضافة إلى وجوب و حتمية استكشاف و اتباع حلول مبتكرة و عصرية واستخدام التقنيات الحديثة للمساهمة في الحفاظ على موارد المياه وضمان استدامتها في تونس.

By amine

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *