مهى بن رحومة قسم العلاقات الدولية والشؤون الإستراتيجية 08-07-2024
تقديم:
في الوقت الحاضر، لا تزال وسائل التواصل الإجتماعي تمثل حجر الزاوية في التفاعل الإجتماعي والتواصل الشخصي، إلا أنها تجاوزت هذا الدور التقليدي لتصبح منصات إعلامية عالمية تؤثر بشكل كبير على السياسات والقرارات الدولية.
يستخدم الفاعلون السياسيون والمؤسسات الدولية هذه الوسائل بشكل استراتيجي لتعزيز أجنداتهم وتوجيه الرأي العام نحو أهداف محددة، مما ينعكس على الساحة الجيوسياسية بشكل ملحوظ.
كما يقول الباحث والكاتب السياسي ماركوس ميسنر: “إن وسائل التواصل الاجتماعي لم تعد مجرد وسيلة للتواصل الاجتماعي، بل أصبحت قنوات قوية تستطيع أن تشكل الرأي العام وتؤثر في التوجهات السياسية على المستوى العالمي.”
ويضيف الباحث الأمريكي جوزيف ناي: “تمثل وسائل التواصل الاجتماعي تحولاً ثورياً في المشهد السياسي العالمي، حيث أصبح بإمكان الأفراد والمجموعات الصغيرة أن يؤثروا بشكل مباشر في صياغة السياسات العامة وتوجهات الحكومات عبر نشر الأفكار والأخبار بشكل سريع وفوري.”
ولذلك يمكن تسليط الضوء على الأثار المتزايد للتكنولوجيا الرقمية على العلاقات الدولية، حيث أصبحت القدرة على الوصول إلى المعلومات وتبادلها على نطاق واسع يلعب دوراً حيوياً في تشكيل المشهد الجيوسياسي العالمي المعاصر.
الى أي حد وقع تطويع وسائل التواصل الإجتماعي لتوجيه الرأي العام الدولي وتأثيرها الحالي على الساحة الجيوسياسية العالمية؟
توجيه الرأي الدولي
لقد نجحت هذه الوسائل في لعب دور محوري في تشكيل وجهة النظر الدولية بشأن القضايا الجيوسياسية، مما جعلها قوة مؤثرة في الساحة العالمية.
ورغم هذه الإيجابيات، تُظهر هذه الوسائل وجهًا آخر يتمثل في احتمالية نشر الأخبار غير الصحيحة أو المضللة، سواء بقصد أو بغير قصد، لأن ناشري الأخبار ليسوا بالضرورة صحفيين محترفين.
خلال الأزمات السياسية أو الصراعات العسكرية، يمكن أن تنتشر مقاطع الفيديو والصور والتغريدات بشكل واسع، مؤثرة على الرأي العام رغم أنها قد تكون غير دقيقة.
على الجانب الإيجابي، يمكن الإشارة إلى الزلزال المدمر الذي ضرب تركيا في عام 2023، حيث لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دورًا بارزًا في حملات الإغاثة وجمع التبرعات. واستغل المؤثرون منصاتهم للوصول إلى جمهور واسع، مما ساهم في جمع مبالغ كبيرة لدعم المتضررين.
أما الجانب السلبي، فيتجلى في نشر العديد من الشائعات والمعلومات الكاذبة عبر منصات مثل فيسبوك بهدف زيادة نسب المشاهدة. هذه المعلومات المضللة تؤثر سلبًا على الرأي العام وتؤدي إلى انتشار الشائعات، مما يعقّد فهم الأحداث والوقائع بشكل صحيح.
بالإضافة لمثال إسرائيل فقد استخدم الكيان وسائل التواصل الاجتماعي لجلب التعاطف الدولي بعد حملاتها العسكرية على غزة. من خلال نشر محتوى موجه بدقة، استطاعت إسرائيل تقديم نفسها كضحية للهجمات بالإستغلال المؤثرين العالميين أيضا، مما أثر على الرأي العام الدولي وجعلها تحظى بدعم بعض الدول والمنظمات، في البداية 07 أكتوبر 2023 وبعدها مباشرة سقط القناع وانقلبت المعطيات.
يمكن لحملات التواصل الاجتماعي أن تجمع ملايين الأشخاص حول قضية واحدة، مما يضفي قوة إضافية على الحركات الاحتجاجية أو الحملات الدعائية، وهذا قد يؤدي إلى تغيير السياسات الحكومية أو حتى الإطاحة بالأنظمة السياسية.
في هذا السياق، يمكن الإشارة إلى مثال الربيع العربي، حيث لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دورًا محوريًا في تحفيز وتنظيم الاحتجاجات الشعبية.
بدأت الثورة في تونس وانتقلت سريعًا إلى العديد من الدول العربية، مشعلة سلسلة من الانتفاضات التي أدت إلى تغييرات سياسية كبيرة. كانت وسائل التواصل الاجتماعي الأداة الرئيسية لنقل الأخبار والتنسيق بين المتظاهرين، مما جعلها عنصرًا حاسمًا في نجاح هذه الثورات.
على الجانب الآخر، استخدمت المنظمات الفلسطينية وسائل التواصل الاجتماعي لنقل معاناة الشعب الفلسطيني إلى العالم. نشر الفيديوهات والشهادات الحية من غزة والضفة الغربية ساعد في كسب تعاطف العديد من الناشطين الدوليين والجماهير العريضة، مما أضاف بعدًا جديدًا للصراع وإنقلبت كل المعطيات.
من ناحية أخرى، نجد المثال الغربي المتمثل في حركة “حياة السود مهمة” (Black Lives Matter)، التي انتشرت بفضل وسائل التواصل الاجتماعي.
بدأت هذه الحركة بفيديو يصور حادثة قتل جورج فلويد، وسرعان ما اكتسبت زخمًا هائلًا على مستوى العالم، مما أدى إلى تنظيم احتجاجات واسعة النطاق وتغيير في السياسات المحلية والوطنية في العديد من البلدان.
الدعية والإعلام و الخدع الترويجية
أصبحت الحكومات والجماعات السياسية تعتمد بشكل متزايد على وسائل التواصل الاجتماعي كأداة قوية للدعاية وبث الرسائل السياسية.
من خلال الحملات الإعلانية الممولة والترويج للمحتوى المستهدف، يمكن التأثير على توجهات الجمهور وتوجيهه نحو تبني وجهات نظر محددة.
هذا الاستخدام الاستراتيجي يمكن أن يكون له تأثير كبير على الانتخابات والسياسات الداخلية والخارجية للدول.
على سبيل المثال، في النزاع الروسي الأوكراني، استخدمت كلا الطرفين وسائل التواصل الاجتماعي لنشر الدعاية وجذب الدعم الدولي.
الطرفان قاموا بتسخير هذه الوسائل لبث رسائلهم وتوجيه الرأي العام العالمي بما يخدم مصالحهم.
النزاعات في الشرق الأوسط، مثل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، شهدت أيضًا استخدامًا مكثفًا لهذه الوسائل لتوجيه الرأي العام العالمي والتأثير على السياسات الدولية.
على الجانب الآخر، نجد استغلال ” دونالد ترامب ” لمنصة فيسبوك للترويج لنفسه في الانتخابات الرئاسية. من خلال جمع معلومات حساسة عن مستخدمي المنصة واستخدامها بشكل استراتيجي، تمكنت حملته من توجيه الرأي العام الأمريكي للتصويت لصالحه على حساب منافسته ” هيلاري كلينتون”، مما أثار جدلاً واسعاً حول أخلاقيات استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في الحملات السياسية.
من جهة أخرى، تعتبر وسائل التواصل الاجتماعي بيئة خصبة لنشر المعلومات المضللة والشائعات. هذا التضليل يمكن أن يُستخدم كأداة لتوجيه الرأي العام نحو أهداف معينة أو لتشويه سمعة دول أو شخصيات سياسية. أصبحت استخدام الحسابات الوهمية والجيوش الإلكترونية شائعًا لتحقيق هذه الأهداف، مما يزيد من تعقيد المشهد الإعلامي والجيوسياسي.
و تأتي الحادثة الشهيرة لهيئة الإذاعة البريطانية (BBC) ونشرها لمعلومات مضللة لصالح إسرائيل، كمثال واضح على كيفية تأثير الإعلام الدولي في تشكيل الرأي العام. لم يقتصر الأمر على عدم دقة المعلومات أو انحيازها، بل تجاوز ذلك إلى خلق قصص من وحي الخيال.
تعكس هذه الحادثة الجانب المظلم لاستخدام وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي في النزاعات السياسية والجيوسياسية، حيث يمكن استغلالها لتوجيه الجمهور بطرق تؤثر سلبًا على فهمهم للحقائق والأحداث.
في المقابل، في حالة السودان الحالية، نلاحظ صمتًا تامًا تجاه الانتهاكات التي تحدث هناك. هذا الصمت ليس مفاجئًا، إذ تعتمد هذه الوسائل منهجًا معينًا صاغته القوى العالمية الكبرى، مما يؤدي إلى تهميش بعض القضايا وتسليط الضوء على أخرى بما يتماشى مع المصالح السياسية والاقتصادية لتلك القوى.
هذا الأمر يعكس البعد السياسي الكامن وراء إدارة المعلومات على منصات التواصل الاجتماعي ويبرز الحاجة إلى وعي نقدي أكبر لدى المتلقين لتلك المعلومات.
فخاخ التضليل والمعلومات الزائفة
ومع استمرار التطور التكنولوجي وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، يُتوقع أن تتزايد أهمية هذه الوسائل في تشكيل الرأي العام العالمي، خاصة مع ظهور الذكاء الاصطناعي وتطوره المتسارع وتأثيره على المدى البعيد وفقًا لتحذيرات مطوريه مثل إيلون ماسك و غيره.
يتعين على الدول والحكومات تبني استراتيجيات ذكية لاستخدام هذه الوسائل بفعالية، مع مراعاة الأخلاقيات والتحديات المتعلقة بالتضليل والمعلومات الكاذبة.
يتطلب هذا التطور المستمر وعيًا عميقًا من الحكومات والأفراد على حد سواء، لضمان الاستخدام الأمثل لتلك الوسائل، وتجنب الانزلاق. إن المسؤولية تقع على عاتق الجميع في التحقق من المعلومات المتداولة، والتعامل معها بحذر ووعي، لضمان نقل الحقائق بدقة ومصداقية، وتجنب التأثيرات السلبية التي قد تنجم عن المعلومات المضللة.
وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت الآن جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، تؤثر على أفكارنا وسلوكياتنا بشكل لم يكن متوقعًا قبل عقد من الزمن مساهما بذلك في هشاشة الإنسان.
في عصر المعلومات، لا يمكننا تجاهل القوة الهائلة لوسائل التواصل الاجتماعي في تشكيل الرأي العام والتأثير على القرارات السياسية. يمكن لوسائل التواصل الاجتماعي أن تكون أداة فعالة لنشر الحقيقة، ولكنها في الوقت نفسه يمكن أن تكون سلاحًا لنشر الأكاذيب والمعلومات المضللة.
منصات “لمن يملك الأكثر” والتأثير السياسي
التضليل الإعلامي عبر وسائل التواصل الاجتماعي يمكن أن يؤدي إلى عواقب وخيمة على المستوى الدولي، مما يجعل من الضروري التصدي له بفعالية، فيصبح التمييز بين الحقيقة والخيال تحديًا كبيرًا لمستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي.
هذه الأخيرة لديها القدرة على تشكيل الرأي العام، لذا يجب استخدامها بمسؤولية وأخلاقية. لا ينبغي أن ننسى أن القوة الحقيقية لهذه الوسائل تكمن في قدرتها على توحيد الناس وتغيير العالم نحو الأفضل فالتواصل الفعال عبرها يتطلب مزيجًا من الحكمة والوعي والمسؤولية.
هذه الأدوات تُستخدم بشكل متزايد في الانتخابات للتأثير على الرأي العام. استخدام منصات مثل “إكس” (تويتر سابقًا) من قبل السياسيين لإبداء آرائهم والدخول في صراعات فيما بينهم أصبح أمرًا شائعًا، مما يجعل هذه المنصات ساحة مهمة للتأثير السياسي.
آخر الأخبار موجودة على وسائل التواصل، حيث أن الإعلام التقليدي أصبح يستخدم هذه المنصات لاختيار الأخبار ونقلها إلى الجمهور. رغم إمكانية استخدام هذه الوسائل لإيصال صوت المظلومين، إلا أنها تبقى دائمًا منصات غير محايدة متحكم بها من قبل قوى معينة، وتحديدًا القوى الحاكمة في العالم مثل الولايات المتحدة، التي تستخدم هذه المنصات لبسط نفوذها.
أصبحت إمكانيات هذه المنصات في استخدام الذكاء الاصطناعي لإنتاج الأخبار المزيفة والمغالطات واضحة بشكل متزايد. يستطيع الذكاء الاصطناعي الآن إنشاء محتوى يبدو وكأنه حقيقي، مما يعقد من تحدي التمييز بين الحقيقة والخداع.
وقد أصبح استخدام هذه الوسائل لتحليل بيانات المستخدمين والتحكم في المحتوى الذي يتابعونه أمرًا شائعًا، مما يثير مسائل أخلاقية حول الخصوصية وحرية المعلومات.
خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي تحدد بشكل كبير ما يمكن للمستخدمين رؤيته، مما يؤثر على آرائهم وتوجهاتهم بطرق قد لا يدركونها بشكل كامل.
في حرب غزة الأخيرة، برز دور هذه الوسائل كأداة فعالة في تحديد الأهداف واستهدافها بدقة، حيث استخدم جيش الاحتلال الإسرائيلي تطبيق “واتساب” لتحديد مواقع المستخدمين من خلال رسائلهم وخاصية تحديد الأماكن، ما سمح له بتوجيه ضربات دقيقة باستخدام منظومة الذكاء الاصطناعي “لافندر”.
الخلاصة:
يقول الرئيس الصيني شي جين بينغ: “علينا أن نستثمر في قوة وسائل التواصل الاجتماعي لتعزيز الحوار البناء والتنمية، وفي الوقت نفسه نحمي من سوء استخدامها في تقويض الاستقرار ونشر الأكاذيب.”
وكما قال سلمان رشدي: “التكنولوجيا ليست جيدة أو سيئة. إنها فقط أداة، والطريقة التي نستخدمها بها هي ما يجعلها مفيدة أو ضارة.”
هذا الاقتباس يعكس حقيقة أساسية: التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي ليست بذاتها مشكلة، بل هي مجرد أدوات يمكن استخدامها بطرق مختلفة. استخدام هذه الأدوات لتحقيق أهداف نبيلة مثل تعزيز الحوار والتفاهم بين الشعوب يتطلب وعيًا جماعيًا وتعاونًا دوليًا.
من الضروري أن يستفيق العالم ويقوم بمراجعة شاملة لكيفية استخدام هذه المنصات. هذه الاستفاقة تتطلب من الدول والحكومات والمجتمعات العمل معًا لضمان استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بطريقة مسؤولة وأخلاقية، تساهم في بناء جسور التواصل والفهم بين الشعوب، بدلاً من أن تكون وسيلة لتفريقهم ونشر الفرقة لضمان أن تظل هذه الأدوات في خدمة الإنسانية وتطلعاتها نحو مستقبل أفضل وأكثر استقرارًا.