الثلاثاء. ديسمبر 24th, 2024

 نجد أن أحد أهم المواضيع المطروحة على الساحة الجيوسياسية العالمية اليوم هي موجة التحرر الجديدة في أفريقيا. بدأت هذه الموجة في عام 2019 وتميزت منذ البداية بالعنف والقتل خارج نطاق القانون وانتهاكات حقوق الإنسان، لاسيما في غرب إفريقيا ويتعين على الدول الغربية وأمريكا الآن أن تتساءل كيف ستستجيب لهذه الموجة الحديثة من التغييرات السياسية في إفريقيا لكن قبل كل شيء دعنا نتعرف على موجة التحرر بصفة عامة؟

تعتبر موجة التحرير حركة وعي شعبي تهدف بالأساس إلى تحقيق الحرية والإنعتاق من أغلال الإستعمار الغربي المبطن، وهي حركات في مواجهة القيود السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

تجسد هذه الحركة البحث عن الحرية السياسية، وتحسين الظروف الاقتصادية، وحماية حقوق الإنسان وتعزيز العدالة الاجتماعية من قبل الأفراد أو الجماعات المعنية.

 وفي المجتمعات المعنية، عادة ما ترتبط موجات التحرر بالتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. كما يعرفها الدكتور رشيد قسيبه في محاضرته بعنوان:” تبلور الفكر التحرري في إفريقيا وأسيا” قائلا: “وتعرف حركات التحرر بأنها عبارة عن منظمات شعبية أخذت على عاتقها مهمة تحرير شعوبها، وأوطانها من التواجد العسكري الأجنبي فوق ترابها الوطني، فالحركات التحررية وأعمالها المسلحة إنما تمثل تهديدا لهذا التواجد الأجنبي، وتهديدا لسيطرته وامتصاصه لدماء الشعوب المغلوبة على أمرها”.

كيف ستتعامل الدول الغربية وأمريكا مع موجة التحرير الجديدة في إفريقيا؟

برزت هذه الموجة أساساً في عدم الاستقرار المتجلي في عدة دول إفريقية حيث شهدت هذه الدول انقلابات عسكرية قائمة في أغلبيتها على الرفض الواسع للتدخل الأجنبي الغربي الأمريكي.

هذه الانقلابات غالبًا ما تكون مدفوعة بمشاعر الاستياء من السياسات الاستعمارية من قبل القوى القديمة التي يُعتقد أنها تُفرض على الدول الإفريقية، من قبل حكامهم.

وهذا ما أدي إلى تصاعد التوترات الداخلية وعدم الاستقرار السياسي ويضاف إلى ذلك تحول هام في موازين القوى متمثلاً في تراجع النفوذ الغربي والأميركي في المنطقة أمام التمدد الروسي الصيني.

 ولمزيد فهم هذه الموجة دعنا نتعرف أكثر على أهم عواملها المتمثلة في أزمات قد ضربت مختلف المجالات:

تُعاني العديد من الدول الإفريقية من أزمات اجتماعية عميقة تُلقي بظلالها على حياة الملايين من البشر وتتشابك في هذه الأزمات العديد من العوامل متمثلة:

 أولا في انتهاكات حقوق الإنسان الممارسة على نطاق واسع في العديد من الدول الإفريقية. تشهد هذه الدول عمليات قتل خارج القانون واعتقالات تعسفية، وتعذيب مخلفين بذلك بيئة من الخوف و القمع.

وثانيا الخلافات العرقية والدينية الممزقة لإفريقيا والتي غالبًا ما تتحول إلى أعمال عنف دامية.

وأخيرا غياب العدل والعدالة فأغلب الأفارقة يعانون من هذه المشكلة نظرًا لقلة الكفاءة والنزاهة في أنظمة العدالة. ويُعد الفساد المستشري في العديد من الدول الإفريقية عائقًا أمام تطبيق القانون ويُؤدي إلى الإفلات من العقاب،مما يُفاقم من شعور المواطنين بالظلم.

يُعاني العديد من بلدان إفريقيا من أزمات اقتصادية خانقة. بينما تمتلك القارة ثروات طبيعية وموارد بشرية هائلة يعيش الملايين من الأفارقة تحت خط الفقر، ويواجهون خطر المجاعة، نظرًا لاستغلال جهات خارجية هذه الثروات دون مراعاة للاحتياجات الأساسية لشعوبها تاركة وراءها كارثة بيئية تتمثل في التلوث المتجلي في تسمم الأرض وتلوث الهواء دون أي مسؤولية من قبل المستغلين.

يُضاف إلى سوء الاستغلال الخارجي سوء التصرف من قبل الحكومات الإفريقية في مواردها، ونقص الاستثمار في مجالات حيوية مثل التعليم والصحة والتنمية البشرية، بالإضافة إلى النقص في الموارد الأساسية مثل المياه والطاقة، مما يُفاقم من حدة الأزمة، يُعيق جهود التنمية ويزيد من معاناة الشعوب

تعاني العديد من الدول الإفريقية من عدم الاستقرار السياسي، حيث تتزايد الرغبة بين الشعوب في تحقيق الديمقراطية والسيادة الوطنية المستقلة والحقيقية. لم تأت التحولات الإفريقية الراهنة نتيجة لأسباب مباشرة فقط، وإنما نتيجة تراكمات سياسية كثيرة.

فقد المواطنون الأمل في الأنظمة الحاكمة بسبب صعود قيادات شابة جديدة من المدنيين والعسكريين الراغبين في لعب أدوار جديدة في الحياة السياسية. ساهم في هذا الصعود تفشي الفساد في الطبقة الحاكمة، وعجز الحكومات عن حل المشكلات القائمة وتوفير الخدمات الضرورية.

كذلك، بات التأجيل المستمر للإصلاحات الجدّية سمة الأنظمة الحاكمة في إفريقيا، مما أفقد الشباب الأمل وجعلهم يتذمرون من سلوك هذه الأنظمة. هذا الجمود السياسي أدى إلى فقدان الثقة في النخب الحاكمة التي فشلت في تقديم التنمية والأمل للمستقبل.

كما أن الانقسام السياسي بين النخب المدنية والعسكرية، وتعزز التنافس الدولي على القارة، زاد من تعقيد المشهد السياسي ودفع الشعوب إلى التحرك للإمساك بزمام مستقبلها.

وتواجه العديد من الدول الإفريقية أزمات أمنية متشابكة مع عوامل داخلية وخارجية، تهدد حياة الناس وتعرقل التنمية بشكل كبير. وفي بعض هذه البلدان، ينعدم الأمن وتنتشر الجريمة والعنف المسلح، مما يخلق بيئة من الخوف وعدم الاستقرار لها تأثير سلبي على حياة الناس اليومية واستثماراتهم الاقتصادية.

 كما أن هناك نقصا في الوسائل الفعالة لمكافحة الإرهاب، الأمر الذي أدى إلى التنظيم العشوائي وأنشطة التنظيمات المتطرفة، مما يزيد من تعقيد الوضع الأمني.

بالإضافة إلى ذلك، فإن تدخل القوى الأجنبية في الأراضي الوطنية يمكن أن يؤدي إلى صراعات وتقويض السيادة الوطنية، لأن القوى الخارجية تتدخل من أجل تحقيق مصالحها الخاصة على حساب الاستقرار الداخلي.

كما إن اعتماد هذه الدول اقتصادياً وسياسياً على الغرب يقوض قدرتها على اتخاذ قرارات مستقلة ويمنعها من تحقيق الاستقلال الحقيقي.

كذلك الاعتماد المتزايد على الدعم الخارجي يجعل البلدان الأفريقية عرضة للضغوط السياسية والاقتصادية التي تؤثر على قدرتها على تنفيذ سياسات التنمية المستقلة التي تلبي احتياجات شعوبها.

تتطور العلاقات بين الصين وروسيا ودول أفريقيا بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة حيث يثير التواجد الصيني في أفريقيا نقاشا واسعا حول دوافعه وتأثيراته على القارة السمراء حيث تروج لوجودها في إفريقيا كمساهم في تحقيق غاية القارة من خلال دعم التنمية وتقديم المساعدات وتعزيز التعاون الاقتصادي خاصة منها التعدين والتصنيع وخلق فرص عمل إضافة إلى نقل التكنولوجيا كمشاركة الخبرات والتقنيات مع الدول الإفريقية والتعاون في حفظ السلام والأمن.

إلا أن التواجد الصيني يخفي مصالح إستراتيجية أيضا تتعلق بالأمن القومي كضمان إمدادات ثابتة من الموارد الطبيعية الحيوية مثل النفط والمعادن واختراق الأسواق الإفريقية الضخمة لمنتجاتها وخدماتها والتأثير الجيوسياسية لمواجهة النفوذ المتزايد للقيمة الغربية خاصة الولايات المتحدة إضافة إلى تعزيز المبادر العالمية للصين أي دعم مبادرة الحزام والطريق التي تصعد إلى تسعى إلى توسيع نفوذ الصين عالميا.

لتحقيق هذه الأهداف توظف الصين أدوات تشمل الاستثمار وتقديم قروض تمويلية ضخمة وبناء مشاريع بنية تحتية كبيرة، التجارة وزيادة حجم التبادل التجاري مع الدول الأفريقية، المساعدات المالية والفنية وتعزيز العلاقات الدبلوماسية واستخدام القوة الناعمة كنشر الثقافة الصينية من خلال التعليم والإعلام.

أما التعاون بين أفريقيا وروسيا فهو يتمثل في ثلاثة مجالات رئيسية: المواد الخام والأمن والاستثمار.

وتعتبر روسيا المورد الرئيسي للبضائع والأسلحة والمواد الهيدروجينية لأفريقيا، وتحتوي على 30 في المائة من احتياجات القارة.

وتستثمر روسيا على المستوى الاقتصادي في البنية التحتية من خلال بناء الموانئ والسكك الحديدية ومحطات الطاقة بالإضافة للاستثمار في المياه والصناعات التقليدية في أفريقيا. إلا أن التجارة بين الجانبين تظل متواضعة وغير متوازنة إلى حد كبير لصالح روسيا.

زاد التبادل التجاري بين روسيا وإفريقيا لكنه لا يزال أقل بكثير من التبادل التجاري بين الصين وإفريقيا

من الجدير بالذكر أن التواجد الأمريكي والأوروبي في إفريقيا تميز بالتدخل في شؤون الدول المستعمرة وفرض السلطة من خلال أشكال متعددة تشمل التدخل السياسي والعسكري والاقتصادي والثقافي، مما يؤدي إلى زعزعة الاستقرار السياسي، والتبعية الاقتصادية، والتأثيرات السلبية على الهوية الثقافية.

في المقابل، تميز التواجد الصيني والروسي بالاحترام الكامل للسيادة الوطنية والتعاون غير المشروط مع الدول الأفريقية، حيث يتم التركيز على الاحترام المتبادل، المصالح المشتركة، عدم فرض الشروط، الشراكة المتكافئة، وأهمية الحوار والتنسيق، مما يعزز العلاقات المتكافئة والداعمة للقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان.

إن السياسات كلا القوتين تخلق التحول في موازين القوى يعكس تراجع النفوذ الغربي والأمريكي في إفريقيا ولجوئها لتعزيز علاقاتها مع روسيا والصين، مما يخلق ديناميكيات جديدة في العلاقات الدولية ويعيد تشكيل التحالفات السياسية والاقتصادية في المنطقة.

ومن الجدير بالذكر أن هذا التحول لا يخلو من التحديات، حيث يثير قلق الولايات المتحدة والدول الأوروبية خوفا من خسارة القارة الغنية أمام تفوق القوى الجديدة عليها في ظل هذه التغيرات الجيوسياسية.

لطالما لعبت القارة الأفريقية أهمية اقتصادية وجيوسياسية كبيره لكل من الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، حيث تعتبر مصدراً غنياً بالموارد الطبيعية والتي تعتبر ضرورية للصناعات التكنولوجية. وتمثل سوقاً ناشئة هامة للشركات الغربية.

بالإضافة إلى ذلك، تشكل المنطقة مركزاً رئيسياً لإنتاج المحاصيل الزراعية والمواد الغذائية كما تتمتع إفريقيا بموقع جغرافي استراتيجي يجعلها محوراً للتجارة البحرية العالمية وتأثيرها الكبير على النظام الدولي والعلاقات الدولية، وتعتبر التحالفات والشراكات مع الدول الإفريقية ضرورية لمواجهة التحديات الجيوسياسية المتنوعة، وخاصة زيادة النفوذ الروسي والصيني في المنطقة.

حيث أن أوروبا تعتمد بشكل كبير على الغاز الروسي، ولكن فرض العقوبات على روسيا أثر على إمدادات الغاز فأصبحت تبحث عن بدائل، وإفريقيا تبرز كخيار رئيسي بفضل إمكانياتها في الطاقة المتجددة.

حيث يُعزز الاستثمار الطاقي في إفريقيا أمن الطاقة للغرب ويساهم في تحقيق أهداف الاستدامة البيئية والحد من انبعاثات الكربون.

حذر وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن خلال اجتماع في مستهل القمة الأمريكية الأفريقية، من أن نفوذ الصين وروسيا “يمكن أن يكون مزعزعا للاستقرار”. 

المقاربة الصينية والروسية المتمثلة في عدم التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الأفريقية وعدم فرض اي شروط سياسية على البلدان المقترضة تجعل التعامل مع القوتين جذابا مما يثير مخاوف القوى استعماريه القديمة لمخاوف سياسية وأمنية تتركز على زيادة النفوذ السياسي لروسيا والصين، حيث يخشى الغرب من تحول الأوضاع السياسية في القارة نتيجة لهذا النفوذ المتزايد، مع تأثير محتمل على التحالفات والعلاقات الدبلوماسية التقليدية.

كما يثير التدخل العسكري المتنامي قلقًا من احتمال تصاعد التوترات وعدم الاستقرار الإقليمي، خصوصاً مع زيادة التعاون العسكري بين بعض الدول الإفريقية وروسيا والصين. 

وفي الجانب الاقتصادي، يثير تنافس الصين وروسيا على الموارد الطبيعية في إفريقيا مخاوف بشأن تأثيره على المصالح الاقتصادية للدول الغربية، كما يركز القلق على تأثير المبادرات الاقتصادية مثل مبادرة الحزام والطريق الصينية، تهدف إلى إنشاء بنية تحتية واسعة تربط الصين بالدول الإفريقية التي قد تعزز النفوذ الصيني على حساب المصالح الغربية

يظهر أن القارة الأفريقية تشكل مصدرًا مهمًا للقوى الغربية، لكنها تواجه تحديات كبيرة قد تؤدي إلى مستقبل ضبابي في المنطقة. تتمثل في النفوذ المتزايد للصين وروسيا وتأثيرهما على الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي في القارة.

 فيخشى الغرب من فقدان مصالحه ونفوذه التقليدي في ظل تنامي النفوذ الروسي والصيني، هذه المخاوف تجعل التعامل مع القارة الأفريقية تحديًا كبيرًا للقوى الغربية، مما قد يجعل مستقبل العلاقات الدولية في المنطقة غير واضح وقد يتطلب استراتيجيات جديدة للتعامل مع التحديات الجديدة التي تواجهها.

 التفاعلات المتوقعة للغرب وأمريكيا من صحوة إفريقيا الجديدة:

تحالفات وشراكات برؤية جديدة: سعي لتعزيز التعاون لمواجهة النفوذ الصيني والروسي:

قد تسعى الولايات المتحدة والدول الأوروبية إلى بناء شراكات مع الدول الأفريقية لتعزيز التعاون الاقتصادي والسياسي والأمني، لمواجهة التحديات المشتركة من خلال زيادة المساعدات الإنمائية والاستثمارات في مجالات البنية التحتية البديلة والطاقة والتكنولوجيا.

والهدف من كل هذا هو الحفاظ على مصالحهم الاقتصادية عن طريق مواجهة التأثير الاقتصادي للوجود الصيني والروسي في القارة والحد من الاعتماد عليهم.

يمكن أن تعزز هذه القوى وجودها العسكري على الأراضي الإفريقية تحت مسمى حماية حقوق الإنسان وقيم الديمقراطية ويمكن أن تضطر حتى إلى فرض عقوبات مستهدفة للصين وروسيا أو لإفريقيا للضغط عليها.

هذا ما يمكن أن يلعب دورا هاما في تصاعد حدة الصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي وهو ما قد يؤدي إلى اندلاع حرب عالمية ثالثة من القارة السوداء.

صحيح أننا نشهد اليوم نوعًا من الصحوة في إفريقيا، ولكن الصحوة الحقيقية والدائمة يجب أن تولد من الشعب الإفريقي نفسه، وليس من الخارج.

على الرغم من أن التدخل والدعم الخارجيين مهمان، إلا أن الأساس هو الوعي الداخلي لبناء مستقبل أفضل للأجيال القادمة.

الوعي المتجلي والمتزايد اليوم عالميًا، في ظل الحروب والصراعات الجارية خاصة منها حرب فلسطين وإسرائيل التي تعد من أهم الأحداث التي يعيشها العالم اليوم، نظرًا لتأثيرها الكبير وتداعياتها العميقة، خصوصًا على الغرب.

شعوب العالم تنتفض اليوم،تقوم بمراجعات لمواقفها من جميع الحروب التي مضت وموجهة أصابع الاتهام إلى الغرب الذي لا يفكر إلا في مصالحه الشخصية.

يمكن القول إن العالم بأسره يتحرر اليوم من هيمنة الغرب وأمريكا، وليس إفريقيا فقط.

فهل نحن بالفعل أمام استفاقة عالمية قد تكون نهاية لسيطرة الغرب؟

 

By amine

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *