الأثنين. سبتمبر 16th, 2024

اتخذ منحى الديمقراطية التمثيلية في الولايات المتحدة الأمريكية طريقا جديدا، خاصّة بعد الجدل الذي خلّفه الرئيس السابق دونالد ترامب سواء خلال الفترة التي قام بالحكم فيها، أو خلال الفترة الحالية في سعيه لنيل ولاية جديدة رغم حزمة القضايا التي تلاحقه من المحكمة، والتي ناهز عددها 34 قضية.

واليوم باتت المنافسة الانتخابية بوجهجديد غير محكومة بمنافسة خاضعةللقواعد المألوفة وأصبحت في أوج احتدامها بالتوازي مع تشبّث الرئيس الجمهوري بالترشح لنيل ولاية ثانية، وهي مرحلة جديدة تدخلها السياسة الامريكية بالتحديات التي ستغزو  النموذج الغربي للديمقراطية التمثيلية التي تواجه بدورها منذ عقود جملة من الانتقادات اللاذعة المشكّكة في مدى تلائمها الفعلي ما المبادئ الديمقراطية على أرض الواقع أو نوعا ما “الواقعية”، وبروز نموذج ديمقراطي تشاركي يلغي النموذج الغربي الموصوف بالوهمي خاصّة بالتوازي مع الأحداث الدولية والعالمية المتعاقبة والتي تنم عن جملة من الصراعات والتناقضات بين ما تفرضه القوى الغربية المهيمنة والواقع المرير الذي تعيشه الشعوب، حيث يرى الكثير من المحللين والمفكرين السياسيين أنّ النموذج التشاركي يوفّر قدرا أوسع من الرضا الشعبي مقارنة بذلك التمثيلي الذي يبرّر هيمنة القادة الغربيين على السياسة العالمية.

وخير مثال على ذلك التناقض القائم حول مسألة الأحكام المدينة لترامب والتي لا تمنع ترشّحه وما بين تلك الديمقراطية القائمة في ابسط مبادئها على النزاهة، فكيف يمكن لقائد لا تتوفّر فيه خصال أبسط مبدأ في الديمقراطية أن يكون مترشّحا؟ وهل يمكن احتساب الإرادة الشعبية على أنّها الجانب الوحيد المرسّخ للديمقراطية؟

الإجابة على ذلك قطعا لا، حيث أنّه من الضروري أن تتوفّر شروط في المترشّحين تمكنّهم من البروز في قائمة السياسيين المؤهلين للدخول في المنافسة الانتخابية، وإلاّ فإنّ المنافسة السياسية ستكون قد دخلت مناحي اعتباطية وغير منطقية لا في شكلها ولا في مضمونها، حيث أنّ تاريخ التنافس على السلطة ضمن ولو بقدر ضئيل حرص الرؤساء المتوالين على السلطة التزامهم بالدستور والقانون حتى من بابه الشكلي، إلاّ ما نراه اليوم هو انتهاك كامل بكل المقاييس للعمليات المرسّخة للديمقراطية المعهودة، بحيث كانت آلياتها ضامنة على الأقل سيرهذه العمليات في طريق آمن غير محكوم بتعقيدات ومسارات متذبذبة ومتناقضة، وهو ما يجعل الشعوب في كل مرة ترحّب بمخرجات هذه العمليات من نتائج متفق عليها ومحدّدة من الجانب الدستوري، وهو ما يسمح للفائز أن يكون مشرعنا ضمن المجمع الانتخابي، ويتناقض ذلك وفقا للمحللين مع فوز ترامب مستقبلا في الانتخابات الرئاسية الأمريكية وحتى فوز جوبايدن.

فبمجرّد إعلان الحزب الجمهوري ترشّح ترامب في الانتخابات القادمة، دون أن يكون هناك أي تأثير للحكم النهائي على إمكانية نيله ولاية رئاسية أخرى، فإنّ ذلك لا يعدو في حقيقة الأمر سوى تمرّدا وفوضى وفشلا ذريعا لكل المبادئ الدستورية والقانونية المحدّدةخاصّة مع الغضب الكبير لأنصار ترامب من الأحكام الصادرة عن المحكمة التي تعتبرها مؤامرة محاكة ضمن المرشّح الجمهوري.

تنطوي المحاكمة الموجّهة ضد المرشح الجمهوري ترامب على جملة من التناقضات، بحيث عبّر ترامب في البداية على جملة الضغوط المفروضة عليه من العدالة والتي تفرض عليه حضور الجلسات بمعدّل أربع مرات أسبوعيا ممّا يدفعه للابتعاد عن الحملة الانتخابية في كل يوم، لكنّه ومع ذلك استعاد بحكم الإدانة حريته الكاملة لغاية 11 يوليو القادم وهو تاريخ النطق بالعقوبة، ويصادف أيضا  قبل 4 أيام فقط من انعقاد المؤتمر الذي سيتم خلاله تعيين ترامب بصفة رسمية مرشّح الحزب الجمهوري للانتخابات الرئاسية المقرر إجرائها في الخامس من نوفمبر القادم.

وقدّم قاضي الحكم مهلة لفريق الدفاع عن المرشّح الجمهوري الى غاية 13 يونيو المقبل لتقديم دفوعه قبل إصدار العقوبة، وللنيابة العامة الى غاية 27 من شهر 6 كحق للرد على هذه الدفوع.

وأشار المدعي العام ألفين براغ خلال مؤتمر صحفي إلى أنّ هيئة المحلفين قالت كلمتها حيث وجدت أنّ الرئيس الأمريكي السابق مذنبا بكل التهم الموجهة إليه، مشيرا إلى أن أعضاء الهيئة الـ 12 أصدروا قرارهم بالإجماع بإدانة المدعى عليه “بـ 34 تهمة تتعلق بتزوير محاسبي مشدد لإخفاء مؤامرة هدفها إفساد انتخابات 2016”.

وتنص العقوبات الموجّهة ضد ترامب على تزوير المستندات المحاسبية والتي يعاقب عليها قانون نيويورك بمدة يمكن أن تصل إلى 4 سنوات، وحسب هذا القانون أيضا يمكن تخفيف هذه العقوبة ما لم تكن للمدان سوابق عدلية وهو ما ينطبق على ترامب، ذلك الى جانب اتهامه بـ «المشاركة في مؤامرة غير قانونية لتقويض نزاهة انتخابات الرئاسة عام 2016 والاشتراك في خطّة غير قانونية لقمع السلبية”.

كما يمكن بالاستناد الى السجل العدلي للمدان أن يحكم القاضي عليه بالسجن مع وقف التنفيذ، أو بالقيام بأعمال لخدمة المجتمع مع فرض دفع غرامة مالية، ولترامب أيضا مهلة شهر واحد للاستئناف بشأن الحكم وأشهر أخرى للقيام بذلك، حيث أعلن وكيل الدفاع الأساسي عن ترامب تود بلانش أنّ فريق المرشّح الجمهوري سيستأنف في أقرب وقت، ويمكن أن يؤدي ذلك إلى تجميد تفعيل كل العقوبات الموجّهة ضدّ المدان.

ويشير القانون الأمريكي وفقا لما أعلنت عليه مصادر إعلامية، الى أنّ إدانة الرئيس السابق ترامب وحتى دخوله السجن، لا يمنع ترشّحه للانتخابات الرئاسية، لذلك لم يتوانى ترامب في إعلانه التحدي حين قال أنّ هذه العقوبات تشكّل عارا حقيقيا على رجل برئ، وأنّ الأصوات الانتخابية ستقوم بحسم الأمر في التاريخ المقرر لإجراء الانتخابات، لك لأنّ فوزه لن يمنع توليه منصب الرئاسة الى حدود عام 2025.  

إلاّ أنّه الجدير بالذكر أنّ تولي ترامب منصب الرئاسة لن يمنع استمرار ملاحقته قضائيا، وليس لديه أي صلاحية لمنع القيام بذلك، وذلك بسبب أنّ القضايا المرفوعة ضدّه تابعة لولاية نيويورك، لكن ذلك سيجعل من سمعة ترامب على المحك.

ويشير الخبراء الى انّ مسألة دخول ترامب الى السجن تبدو مستبعدة، خاصّة مع عدم وجود سجل إجرامي له وأنّ التهم الموجّهة له تعتبر نوعا غير عنيفة، ولا يبدو ذلك جديدا في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية حيث أنّه في عام 1920 حصل حادث مشابه مع مرشّح الحزب الاشتراكي يوجين ديز الذي كان محكوما بعشرة سنوات سجن على خلفية تهمة التحريض على الفرقة والانشقاق وتشجيع المواطنين الأمريكيين على رفض آلية التجنيد الإلزامي. ومع ذلك فإنّه ترشّح وساهمت مسألة سجنه في الدعاية له وحصل على مليون صوت في الانتخابات الرئاسية حينها.

وانطلاقا من هذه الفكرة فإنّ الاتجاه الذي تسير ضمنه الديمقراطية المزعومة سلفا للولايات المتحدة الأمريكية سيضاعف من انهيارها بل ستكون الضربة أشد قوّة من سابقتها بسبب تسييس القضاء وجعل السجن وسيلة للدعاية الانتخابية وإخراج السجناء السياسيين على أنّهم أبطال الدولة رغم ما يوجد في حقّهم من جرائم أثبتت المؤسسات القانونية والدستورية إدانتهم بها، حيث قام مناصري ترامب مباشرة بعد تأييد المحكمة إدانة ترامب بحملة تبرّعات لصالحه بمزاعم التآمر بشأنه.

وبالنسبة لترامب، فإنّه لم يتوانى لحظة في اتهام نظام العدالة الأمريكي بالفساد ومحسوبية القضاء، وهو ما يفتح الباب أمامه للتشكيك أيضا في نتائج الانتخابات في حال عدم فوزه بأكبر عدد من الأصوات.

على مدار عقود كانت من أبرز محاولات الولايات المتحدة الامريكية الظهور بصورة البلد الديمقراطي المسيطر على كل التوازنات الدولية، وقد وقع تأييد هذا الاتجاه خاصّة في عام 2021 بظهور “القمة من أجل الديمقراطية”، لكن مع ذلك أثبتت واشنطن فشلها الذريع مع كل الأحداث الدولية المتعاقبة، وأصبحت بكل وضوح متجلية في بلد لا يمكن أن يكون سوى بلد عالق في وهم الديمقراطية يفرض جرائم الحروب وجرائم ضد الإنسانية في الخارج باستغلال قوّته العالمية، ولا تعتبر هذه الديمقراطية المزيّفة سوى وسيلة للتلاعب وتأجيج الصراعات بما يتوافق مع مصالحها وتقسيم العالم الى تحالفات تتحارب بالوكالة.

ولعلّ هناك العديد من العوائق التي أزاحت الغطاء عن سياسات القادة الأمريكيين لتفضح نواميسهم واستراتيجياتهم المعتمدة في تسيير العالم كالاستقطاب السياسي المتفاقم، اتساع فجوة الثروة، التمييز العنصري والانقسام المجتمعي، وبذلك فإنّ ما روّج سابقا في عهدة الرئيس الأمريكي أبراهام لنكولن حين قال “حكومة الشعب، من قبل الشعب، من أجل الشعب” اصبح اليوم بمثابة “الدعابة المضحكة” للعالم، فأبسط عملية يمكن أن ترتكز عليها الدول لتكريس الديمقراطية (العملية الانتخابية) كانت ولازلت مخترقة من المال السياسي في الولايات المتحدة الامريكية، والسلطة بكل وضوح ودون حاجة للغوص في متاهات أخرى واضحة كل الوضوح أنّها ليست حكر سوى على نخبة الأثرياء وليست ملك للشعب كما يروّج لها. وبالتالي فإنّ الظاهر عكس ما هو موجود في الحقيقة، مجرّد ديمقراطية شكلية ليس لها أي أساس جوهري لا على مستوى السياسات ولا في النظام الداخلي ولا حتى في علاقة بالشعب الأمريكي، هي لا ترتدي ثوب الديمقراطية سوى لأجل فرض أكاذيبها على دول قائمة بذاتها لتسييرها داخليا وفرض سياساتها عليها وتقسيم العالم بما يتوافق مع سياساتها لتحقيق مصالحها الذاتية.

والتحجج بالديمقراطية كان له تداعيات سلبية جعلت في وقت ما اتهام كل من يطعن في السياسات الأمريكية ونظامها بالإرهاب فعل سهل وبديهي. لكن المشهد الأمريكي لم يكن خاليا من الانتقادات الصارخة من الأمريكيين أنفسهم من بينهم البروفيسور الأمريكي بول كريغ روبرتس الذي أقرّ بأنّ الولايات المتحدة الامريكية كانت بارعة في استخدام شعارات الحرية والديمقراطية المزيفة فقط من أجل تقديم نفسها على أنّها البلد الديمقراطي الذي يحتذى به وذلك من أجل اكتساب ورقة التدخل في الشؤون الداخلية للدول وتصعيد النزاعات وبث الفوضى وتمويل التنظيمات الإرهابية والقيام بأي عمل إجرامي غير إنساني مدام ذلك يتمحور في النهاية حول مصالحها الخاصّة، حتى أنّ الجوسسة باتت عمل أمريكي منتشر ليس في الداخل فقط بل في الخارج وعلى أمن كل الدول دون إعطاء أي قيمة لسيادتها.

By amine

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *