الجمعة. مايو 17th, 2024

تقديم

منذ أن أصدرت إدارة ” بايدن” نسخة زرقاء من وثيقة الأمن القومي الأمريكية، تضمنت أهدافا واسعة وأولويات للأمن القومي الأمريكي، واعتبرت هذه الوثيقة الصين المنافس الرئيسي للولايات المتحدة، والقادر بدرجة احتمال عالية على توجيه موارده الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتقنية من أجل تحدي النظام الدولي. ونظرت الوثيقة كذلك إلى روسيا بالنظر لتصميمها على تعظيم نفوذها العالمي، ولعب دور “مخرب” على المسرح الدولي.

وعلاوة على ذلك، اعتبرت الوثيقة أن لاعبين إقليميين مثل كوريا الشمالية وإيران متمسكون بتطوير قدراتهم وتقنياتهم على نحو يتسبب في تهديد الاستقرار الإقليمي في محيطهما. وأخيرا، تمسكت الوثيقة ببقاء مخاطر الإرهاب وعنف القوى المتطرفة كتهديدات موضع اعتبار.

كيف انعكس ذلك الأمر على الانتشار الأمريكي في كل من المنطقة العربية والبحر المتوسط؟

الترتيبات الاستراتيجية الواردة بوثيقة الأمن القومي الأمريكي:

الإطلالة الأولى على خلاصات النسخة الزرقاء من وثيقة الأمن القومي، تكشف عن إحتلال كل من الصين وروسيا الرتبتين الأوليين من سلم الاهتمام. وأدى هذا بالضرورة لجملة من النتائج التي يمكن رصدها تاليا. لكن ترتيبات المواجهة على مسرح الإقليم (المنطقة العربية والبحر المتوسط) تحكمها اعتبارات عدة. ويحاجج كريس جيبسون من معهد هوفر الدولي بأن البحر المتوسط بات مسرحا لتفاعلات القوتين المنافستين للولايات المتحدة؛ الصين وروسيا، وأن الملامح ازدادت تعقيدا بالنظر لسعي القوى الإقليمية، وعلى رأسها تركيا ومصر والكيان الصهيوني لبناء علاقات مع هذه القوى المنافسة للولايات المتحدة، ويرى أن توجيه مزيد من الموارد للبحر المتوسط ليس من أولويات الولايات المتحدة، التي يراها في حاجة لتطوير إستراتيجيتها بالنظر لعدم قدرة الولايات المتحدة على التواجد في كل مكان كل الوقت، وأن تحولا كبيرا باتجاه المتوسط غير ممكن ولا مطلوب.

واقترح كريس في دراسته التي أجريت في أكتوبر 2019 بالتركيز على تنمية حلفاء الولايات المتحدة وتنشيط “الناتو” لتحقيق أهداف الأمن القومي الأمريكي.

وفي امتداد لهذا الإطار، وبالنظر لعلاقة تركيا المتوترة بحلف الناتو، يلفت جيبسون كذلك إلى أن تنامي القوة التركية اقتصاديا وعسكريا بالتعاون مع كل من الصين وروسيا أمر بالغ الأهمية بالنسبة للولايات المتحدة، لكنه في نفس الوقت لا يضع تركيا في نفس رتبة العداء كما الغريمين الصيني والروسي، ويراها مدفوعة في هذا المسار بالتهديدات الداخلية التي تواجهها (مركزا على تأثير حضور تنظيم “بي كا كا” و”أكراد سوريا” من دون تقدير ضغوط المؤسسة العسكرية)، ويدعو لتحويل المسار التركي باتجاه دعم علاقاتها بـ”الناتو”، ويرى هذه المهمة غير سهلة، ويدعو لإيجاد سبيل لتعزيز العلاقة مع الرئيس إردوغان الذي ثبت أقدامه وسيستمر في المشهد لسنوات عدة قادمة. لكن النفوذ الصيني بحسب ما يتوفر له من معلومات لا يقتصر على التعاون مع تركيا.

فالكيان الصهيوني يتعاون معها في بناء مينائي “حيفا” و”أشدود”، واليونان تعاونت معها لبناء ميناء “بيرايوس” كذلك. هذا فضلا عن محاولة روسيا السيطرة على ميناء “طرطوس” في سوريا، وتعمل كذلك على دق إسفين بين تركيا والناتو.

  1. ملامح الحضور الأمريكي في المنطقة :

هذه الملامح تتمثل فيما يلي:

هناك ما يشبه الاتفاق على أن “بايدن” ملتزم برفض منهج الحروب الدائمة، وأنه يتجه للتركيز على ما أسمته وثيقة الأمن القومي بـ “المنافسين”، وهو ما يعني أن الانتشار الأمريكي في المنطقة سيتجه وجهتين أساسيتين:

 أولاهما تتمثل في احتواء “المنافسين” وثانيتهما تتمثل في تعزيز جهود مكافحة الإرهاب. لتتبقى بعد ذلك قضيتا إيران وكوريا الشمالية، وهما قضيتان تحتاجان ترتيبات إقليمية. وفيما تبدو قضية استمرار التواجد في جنوب آسيا محسومة بالاستمرار وربما الزيادة بالنظر لقلة عدد القوات الأمريكية؛ بالإضافة لرؤية احتواء الصين، فإن العلاقة مع إيران تبدو قيد تدقيق إضافين وبخاصة في ضوء التوتر الروسي الإيراني من جهة، والتوتر السياسي الأمريكي السعودي من جهة ثانية.

تتجه الولايات المتحدة للحفاظ على قواتها المنتشرة حاليا، وهو ما يرتبط باتجاهه لتجميد قرارات السحب التي اتخذها سلفه “دونالد ترامب”. ففي أول خطاب له حول سياسته الخارجية والأمنية في فبراير 2021، أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن أنه سيوقف أي قرار سبق اتخاذه بمزيد من سحب القوات الأمريكية من ألمانيا، وهو ما مثل تراجعا عن مخطط “ترامب” لإعادة نشر أكثر من 12000 جندي أمريكي متواجدين في هذا البلد الأوروبي، وهي الخطة التي قوبلت باستهجان؛ ليس فقط في ألمانيا، ولكن في عموم أوروبا وفي اليابان.

وتستضيف ألمانيا 87 منشأة عسكرية أمريكية ونحو 33 ألف جندي أمريكي، ولطالما كانت أكبر الدول التي تستضيف القوات الأمريكية. وفي تصريحات لصحيفة “واشنطن بوست”؛ صرح خبراء بأن الولايات المتحدة تخلت عن التوجه نحو نشر قوات بأعداد كبيرة في قواعد حول العالم، لكن هذا لا يمنع من أن إدارة “بايدن” قد تحتاج، وسوف تلجأ، لنشر عدد متزايد من القوات بأعداد صغيرة في عدة دول حول العالم، وسوف تبحث عن حلفاء يستضيفون هذه القوات، ورأى الخبراء أن هذه الانتشارات ترتبط بالتنافس على مستوى القوى الكبرى، لكنهم رجحوا أن الانتشار لن يكون في بلدان تقع ضمن دائرة نفوذ أي من القوى الكبرى.

هناك اتجاه مضطرب لدى الإدارة الأمريكية في التعاطي مع تركيا وأدوارها. فمن جهة، يرى خبراء ضرورة البحث عن مداخل للتعاطي مع الرئيس التركي الذي يثبت أركان حضوره السياسي في المستقبل التركي القريب، وهي فترة كافية بالنسبة للإدارة الأمريكية التي يبلغ عمرها 4 أعوام كحد أدنى، وهو ما يعني ضرورة الانفتاح على تركيا، فيما تبدو العلاقات الراهنة بين البلدين مضطربة إثر قرار استبعاد الولايات المتحدة لتركيا من خريطة مشتريي طائرات “إف 35″، علاوة على الخطوة السياسية السلبية المرتبطة باستخدام “بايدن” مصطلح الإبادة في إشارة للمواجهة المسلحة بين القوات المسلحة والقوات الأرمينية خلال الحرب العالمية الأولى.

غير أن الشواهد تشير لوجود تفاعل على المستوى الإستراتيجي، بدأ بالتدريبات المشتركة في البحر الأسود، وانتهى بالسعي لبناء ترتيبات أمنية خاصة بالبحر الأسود؛ تضم كل من تركيا ورومانيا وبولندا، وتقع أوكرانيا في قلب هذه الترتيبات بطبيعة الموقف التركي، وتترقب انضمام دول أخرى لها، فيما اعتبر محورا داخل حلف الناتو بقيادة أمريكية. هذا الخلاف التركي الأمريكي يمكن تحليله في إطار الفارق بين المستوى السياسي والمستوى العسكري الإستراتيجي للعلاقة بين البلدين.

الملمح الرابع في هذا الإطار، يتمثل في اتجاه الولايات المتحدة للاعتماد على حلفائها، وإعادة تأهيل قدراتهم العسكرية والاستخباراتية؛ بما يسهم في تقليل الإنفاق على انتشار قوات الولايات المتحدة خارج ترابها الوطني من جهة، وبما يكفل قطع الطريق على بناء أي من الصين وروسيا مزيد من علاقات الاعتمادية العسكرية مع مزيد من دول المنطقة. وهذا المنهج سنرصد تفاصيله فيما يتعلق بكل من المغرب والسودان والصومال ورومانيا واليونان، وحتى السعودية والعراق برغم تناقص القوات الأمريكية فيهما.

ثمة ملمح آخر، ربما لم يرد – كسابقه – في وثيقة الأمن القومي التي أصدر “بايدن” نسختها الزرقاء في مطلع مارس، ومفاد هذا الملمح أن الولايات المتحدة لديها تصور حول السيطرة على شرق المتوسط.

هذا الملمح أشار إليه الأدميرال التركي المتقاعد “جيم جوردينيز” في تفسيره لاتساع نطاق الانتشار الأمريكي في اليونان، حيث يرى أن الولايات المتحدة تعمل على خلق إطار تمركز يرتبط برؤية استعادة الهيمنة من خلال استخدام الخلافات بين اليونان وتركيا.

وفي هذا الإطار، لا يتجه الحضور الأمريكي لمساندة اليونان في الصراع الذي يبدو محسوما من وجهة نظر أمريكية لصالح تمتين العلاقة مع المؤسسة العسكرية التركية لدواع إستراتيجية، بل يتجه هذا الحضور لاحتواء تنامى الدورين الروسي والصيني، حيث يكتسب البحر الأبيض المتوسط أهمية كبيرة على صعيد الجغرافيا السياسية للطاقة؛ وذلك بالنظر لمرور نحو 65% من الواردات والصادرات الروسية في البحر الأبيض المتوسط، ما يمنح اهمية خاصة لمحور ألكسندروبوليس – كريت.

  • عمليات الانتشار وإعادة الانتشار الأمريكي :

عن انتشار القوات الأمريكية بحلول نهاية عام 2020، نشر موقع “ستاتيستا” الإحصائي، موضحا ملامح هذا الانتشار المقدر بنحو 2.4 مليون كادر من وزارة الدفاع حول العالم (2.239.777)، يتوزعون بين مليون و944 كادرا منتشرين في داخل الولايات المتحدة وأقاليمها؛ منهم 1.2 مليون “عسكري” فيما البقية من “المدنيين” العاملين بوزارة الدفاع الأمريكية (736 ألفا)، فيما ينشر البنتاجون في أوروبا نحو 81 ألفا، منهم 64 ألف عسكري؛ والبقية من المدنيين، كما تنشر الولايات المتحدة ما يربو على 102 ألفا في الدول التي استقلت عن الاتحاد السوفيتي، منهم 70 ألف عسكري، وتنشر في شرق آسيا والمحيط الهادئ ما يربو على 93 ألفا، من بينهم 83 ألف عسكري؛ و10 آلاف موظف مدني في وزارة الدفاع، ولا يزيد عدد القوات الأمريكية المنتشرة في شمال أفريقيا والشرق الأدنى وحتى “جنوب آسيا” عن 10 آلاف كادر، حيث تنشر 8118 عسكريا و1021 مدنيا.

ويتدنى عدد القوات لأدنى مستوياته في أفريقيا جنوب الصحراء، حيث تنشر الولايات المتحدة 777 كادرا في أفريقيا، من بينهم 760 عسكريا؛ فيما ينتشر نحو 9000 عسكري أمريكي في مناح متفرقة من العالم، ويرجح أن نسبة منهم موزعة في أفريقيا في مهام تدريب، وهو ما يعزى لأرقام من 2017 – 2019.

وكان تعداد القوات الأمريكية في أفريقيا في 2017 قد بلغ 3860 كادرا، منهم 2000 كادر في جيبوتي و800 في النيجر و400 في الصومال و100 في الكاميرون و56 في أوغندا، فيما أشار موقع “ناشيونال إنترست الأمريكي إلى أن تعداد القوات الأمريكية في أفريقيا قد بلغ 6500 كادرا؛ لافتا إلى أن وظيفة هؤلاء تتراوح ما بين تدريب القوات الحليفة، وإجراء عدد من عمليات مكافحة الإرهاب، والاستخبارات.

ووفقاً لإحاطة عام 2018 من مستشار العلوم في أفريكوم بيتر إ. تيل أمام الكونجرس الأمريكي، فإن مجموعة القواعد العسكرية التابعة للقوات الأمريكية في أفريقيا تشمل 34 موقعاً منتشرة في أنحاء القارة، مع تركيز عال في الشمال والغرب بالإضافة إلى القرن الأفريقي.

  • عمليات الانتشار إبان فترة حكم “جون بايدن “

خلال الأشهر الثلاثة الأولى من عمر إدارة “بايدن” شهدت القوات الأمريكية عدة عمليات انتشار يمكن إيجاز ملامحها فيما يلي:

في 8 مارس دخلت مجموعة سفن أمريكية للبحر المتوسط عبر مضيق جبل طارق، وتضم هذه القوة البحرية طراد الصواريخ “مونتيري”، والمدمرتين “ميتشر” و”توماس هودنر”، وسفينة الإمداد “آراكتيك”، علاوة على حاملة الطائرات “يو إس إس دوايت أيزنهاور”.

وتنتمي هذه القطع لأسطول العمليات السادس الأمريكي، وأوضح بيان الأسطول أن “المجموعة تجري تدريبات مشتركة مع سفن من البحرية اليونانية والإيطالية”. وبحسب تقارير إعلامية أمريكية، ستبقى الحاملة “أيزنهاور” في البحر المتوسط لبعض الوقت، وستتفاعل مع القوات البحرية للدول الأعضاء في حلف “الناتو”.

ويرتبط بهذا التوجه، ما شهده الربع الأخير من فبراير الماضي، فيما نوه إليه مراقبون من إنزال أمريكي لوحدات من القسم الأول مشاة، المنتمي لفرقة الطيران القتالي (CAB)، في ميناء إليكساندربوليس؛ شمالي “اليونان”، حيث أفاد مراقبون أن الوحدات الأمريكية ستشارك ضمن عمل القوات الأمريكية الجوية الموجهة لمساندة أوروبا وأفريقيا، وستكون مسؤولة عن الأصول المرتبطة بالطيران الأمريكي في المنطقة، تنفيذا للقرار الأمريكي الأوروبي المشترك بخصوص التواجد الروسي في أوكرانيا، والذي يحمل مسمى إداريAtlantic Resolveoperation. ويتضمن الإنزال 30 مروحية كان من المرتقب أن تشارك في تدريبات لصالح رومانيا في مارس الماضي.

غير أن تسريبا يونانيا كشف أن واشنطن نشرت عشرات المروحيات العسكرية (110 مروحيات من طراز “بلاك هوك” و25 مروحية هجومية من طراز “أباتشي” و10 مروحيات نقل ثقيلة من طراز “شينوك”) علاوة على 1800 آلية. وفي نفس الإطار اليوناني، قررت الولايات المتحدة توسيع أربع قواعد عسكرية لها في اليونان، وتم تخصيص قواعد بحرية للقوات الأمريكية كجزء من اتفاقيات دفاعية بين البلدين، وستستخدم 145 مروحية ومئات المركبات العسكرية في مناورات “المدافع عن أوروبا 2021″، علاوة على الترتيبات المرتبطة بما تم من تدريبات مشتركة مع اليونان في تراقيا الغربية.

فيما يرى مراقبون أتراك بأنها أنشطة تهدف للسيطرة على منطقة شرق المتوسط وبحر إيجة، ولا يستبعد أن تكون في إطار منع تصاعد التوتر في شرق المتوسط بين محوري “تركيا” و”فرنسا”.

وفي نفس الإطار، كانت الولايات المتحدة قد شرعت في فتح مسار للتواجد في البحر الأسود، حيث أجرت تدريبات مشتركة مع تركيا في البحر الأسود، واليونان في بحر إيجه، في إطار الاستعدادات لتأمين منطقتي البلقان والبحر الأسود، فيما وصفه خبراء إستراتيجيون بأنه “نوايا تدريبية ضخمة”، وفيما تدرس الولايات المتحدة رفع وتيرة وجودها وعملياتها التدريبية في البحر الأسود ارتفعت أصوات في تركيا ترجح أن الولايات المتحدة تحاول توريط تركيا في حرب بالبحر الأسود، وهو ما يبدو قد أدى لتطويرات في الرؤية الأمريكية للمنطقة لم تتبدد آثارها بعد؛ سوى من اللقاء الثلاثي الذي ضم بولندا ورومانيا وتركيا، وهو ما يشير لاحتمال اتجاه الولايات المتحدة لبناء ترتيبات أمنية إقليمية عبر الثالوث المذكور، وقد تنضم إليهم جورجيا في المستقبل.

اللقاء الثلاثي المذكور عاليه يرتبط باتجاه الولايات المتحدة لتطوير القدرات القتالية لرومانيا عبر المروحيات القتالية، والتي سبق إنزالها في إليكساندروبوليس، كما يفسر تصريحات رئيس الوزراء اليوناني حول ضرورة التلاقي مع إردوغان.

وفي هذا الإطار، شاركت الولايات المتحدة مع اليونان وعدد من أعضاء “الناتو” في تدريبات “إينيكوس” في أبريل الجاري، وذلك بعد تدريبات كريت في خواتيم يناير 2021؛ والتي جمعت بين التدريبات اللوجيستية والقتالية، وكذلك تدريبات “شرق تراقيا” في 22 فبراير، ثم تدريبات “بحر إيجه” في 13 مارس 2021.

غير أن الولايات المتحدة لم تجر تدريباتها مع اليونان فقط، حيث أجرت تدريبات كذلك مع تركيا في البحر الأسود في 10 فبراير الماضي، وفي شرق المتوسط في 17 مارس الماضي.

منذ 2005، اعتمدت الولايات المتحدة على مدربين مغاربة وسنغاليين من أجل تأطير هذه التدريبات التي جرت مؤخرا بموريتانيا، وإن تمحورت تمارين هذه السنة حول “عمليات إنقاذ وإسعاف” المصابين داخل ميادين القتال والتي جرت محاكاتها في موريتانيا إلى جانب محطة خارجية واحدة في السنغال.

كما احتضن مقر قيادة المنطقة الجنوبية للقوات المسلحة الملكية المغربية بـ”أكادير” في الفترة من 20 إلى 28 يناير 2021، اجتماعاً بين قيادات عسكرية من الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المغربية لوضع برنامج النسخة 17 من مناورات “الأسد الأفريقي”، المقرر عقدها في يونيو المقبل، وتضم خطط هذا التمرين العسكري مشاركة حوالي 10 آلاف جندي من الولايات المتحدة والمغرب وتونس والسنغال، و”فرقة عمل جنوب أوروبا التابعة للجيش الأمريكي – أفريقيا SETAF-Africa”، وقوات من كل من إسبانيا والمملكة المتحدة والبرازيل وكندا وهولندا وحلف شمال الأطلسي. وستشهد تنظيم تمارين برية وجوية وبحرية متنوعة، إضافة لعمليات طبية إنسانية أخرى، لتكون بذلك المناورات العسكرية الأكبر في أفريقيا.

الملمح الأخير يرتبط ببعض الانسحابات التي شهدتها المنطقة، وهما انسحابان رئيسيان:

 الانسحاب الأول يرتبط بأمر “بايدن” بسحب بعض القوات الأمريكية من منطقة الخليج، ويريد إعادة تنظيم تركيز القوات الأمريكية في مناطق أخرى بخلاف الشرق الأوسط، وكانت أهم القطع التي جرى سحبها 3 بطاريات لصواريخ “باتريوت” بأطقمها من منطقة الخليج، ويرجح مراقبون أنها قد أعيد نشرها في القوقاز. وفي نفس الإطار، ينوي البنتاجون لنقل حاملة طائرات وأنظمة مراقبة أخرى من المنطقة، فيما أكدت “وول ستريت جورنال” على لسان مسؤول رفيع المستوى بالبنتاجون أن عملية إعادة الانتشار هذه تهدف إلى المساهمة في جهود احتواء كل من روسيا والصين من دون أن تضطر إلى تحويل قوات من مناطق أكثر حيوية بالنسبة للمصالح الأمريكية، فيما أبقت على منظومات الدفاع الجوي “ثاد” لضمان الدفاع عن المملكة ضد “الصواريخ الباليستية”.

ولا يقتصر الأمر على السعودية، فالعراق يطاله نصيبا من سحب القوات، وبنسبة أكبر، وهي نسبة تخفيض أقل مما سبق لإدارة “ترامب” أن أقرته. وتخطط الولايات المتحدة لسحب أكثر من ثلث قواتها الموجودة في العراق خلال أسابيع، بحسب ما قاله قائد القيادة المركزية الأمريكية، والذي صرح بأن عدد القوات الأمريكية الموجودة سيتقلص من 5200 إلى 3000 عسكري خلال شهر سبتمبر 2021، فيما ستتبقى قوات لتقديم المشورة والمساعدة لقوات الأمن العراقية في “تقفي أثر آخر المتبقين” من مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية.

جدير في هذا الإطار أن نلفت إلى أن هذين الانسحابين يبدوان انسحاب مؤسسة عسكرية أكثر منه موقف سياسي. فمن ناحية، ثمة تاريخ مرتبط بسحب وحدات الباتريوت من السعودية خلال فترة “ترامب”في مايو 2020، وهي الخطوة التي سبق لوزير الخارجية الأمريكي السابق “مايك بومبيو” أن صرح بأنها “كانت منتشرة منذ فترة والقوات يجب أن تعود، وهي بحاجة إلى إعادة انتشار”، مضيفا أن هذه الخطوة “ليست تخفيض الدعم المملكة العربية السعودي”، و”نحن نقوم بكل ما في وسعنا من أجل ضمان أمنها وتزويدها بأنظمة الدفاع الجوي حتى لا يستطيع الإيرانيون تهديدها.

ومن ناحية أخرى، كانت إدارة “ترامب” قد أكدت مرارا اعتزام البنتاجون سحب جميع القوات من العراق في أسرع وقت،  وهو ما حدث بصورة جزئية خلال إدارة “بايدن”.

خاتمة

يتباين حظ المنطقة العربية وشرق المتوسط من تغير نهج الانتشار الأمريكي تحت إدارة “بايدن”، لكن الواضح أن 3 مصادر أساسية للتغير هي الحاكمة لمساراته.فمن جهة، تبدو المنطقة أكثر تأثرا – حتى الآن – بالتوجه لاحتواء روسيا، وهو ما تعبر عنه تحركات ترتبط بالسعي لبناء ترتيبات امنية إقليمية مؤطرة للتفاعلات الأمنية في منطقة البحر الأسود والبلقان (ومن ثم القوقاز)، وهي محاولة للاستجابة لمطالب تركية بعدم الزج بالمنطقة في آتون مواجهة مباشرة بين تركيا وروسيا؛ عوضا عن المواجهة غير المباشرة والمحسوبة القائمة في شمال القوقاز، والتي تمثل امتدادا بشكل أو بآخر لمواجهة جنوب القوقاز (حرب قره باغ)، وتحكمها اعتبارات تكتيكية ولوجستية ترتبط بالجانب التركي؛ ما يضرها تدحرج سريع لكرة الثلج العملياتية، وإن كان تعدد مسارات بناء القوة التركية قد يسعفها؛ لكنه سيكون من خلال ترتيبات استثنائية ربما لا ترغب تركيا في طرق مساراتها راهنا.

التحرك لمواجهة روسيا يرتبط من جهة ثانية بالحضور الأمريكي في السودان عبر العمل على توهين الاتفاق الذي أبرمه الرئيس السوداني السابق عمر البشير مع الروس والخاص بإقامة قاعدة عسكرية روسية شمال ميناء “بورتسودان”؛ علاوة على تعميق اعتمادية الجيش السوداني على الرؤية والسلاح الأمريكيين.

وثمة كذلك تطويق النفوذ الروسي في الجزائر من الشرق والغرب عبر اتفاقين إستراتيجيين مع كل من تونس والمغرب، علاوة على استمرار الحضور الأمريكي في سوريا من دون تخفيض لأعداد القوات هناك، وهو ما قد يكون في إطار رؤية تتضمن ضمان استقرار الشمال السوري عبر إشراك تركيا وإتاحة المجال أمامها للعب دور كبير في تحقيق هذا الاستقرار، علاوة على إحلال قوات عربية (السعودية والإمارات) محل القوات الأمريكية هناك.

ولا يقف التحالف عند هذا الحد، بل يتجاوزه لدعم التعاون بين كل من السعودية والإمارات مع الكيان الصهيوني لمواجهة القوة الإيرانية ونفوذها المتناميين.

وبقدر ما تبدو المواجهة مع “المنافس” الصيني قائمة على قدم وساق على المسرح الأسيوي؛ وبخاصة في المحيط الهادي، فإن حظ المنطقة منها – حتى الآن – يبدو ضعيفا، ومتمثلا في الاتجاه لمزاحمة الحضور الصيني في الشرق الأفريقي؛ عبر معاودة التمركز في الصومال، وتوثيق العلاقات الأمريكية بجيش الدفاع الوطني الصومالي، وربما توفير قدر من الضغط على تركيا في شرق المتوسط لإفساح المجال للولايات المتحدة – ربما من أجل الانفراد بالصومال، وتوسيع نطاق الحضور فيها؛ بما يوازنالحضور الصيني في جيبوتي، وهو ما من شأنه أن يؤدي لمواجهة تركية أمريكية بالنظر للمشروع الفضائي التركي الذي سبقت عرقلته في ليبيا.

المسار الذي يبدو أكثر استنفادا للتحركات الأمريكية في المنطقة فيتمثل في المسار المؤسس على الباعث الطاقوي، والذي ترغب في إطاره الولايات المتحدة في السيطرة على محور أليكساندروبوليس كريت الذي سيكون مسار الطاقة المستقبلي من شرق المتوسط إلى جنوب وشرق أوروبا، وهو المسار الذي يمثل بؤرة التوتر الثانية بين الولايات المتحدة وتركيا التي سبق لها أن أوقفت خط “ميد إيست” اليوناني – “الإسرائيلي” – القبرصي عبر اتفاق تعيين الحدود البحرية بينها وبين ليبيا، وهو الخط الذي وقعت الدول الثلاثة اتفاقية تدشينه بعد تهميش مركز الطاقة المصري.

By admin