السبت. نوفمبر 23rd, 2024

نادية الشرقاوي
الرابطة المحمدية للعلماء

بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على نبيه المصطفى الكريم
وعلى آله وصحبه أجمعين،
السيدات والسادة الأفاضل، الحضور الكريم، السلام عليكم ورحمة الله،

يسعدني غاية السعادة أن أكون منكم في هذا اليوم المتميز لأشارك معكم في أشغال ورشة العمل للبحث عن سبل معالجة الخطاب الديني للتعايش السلمي ولمكافحة الفكر التكفيري، ولا يفوتني أن أتقدم بالشكر الجزيل لكم لدعوتي للمشاركة في أشغال هذه الورشة.

وهذا الموضوع مهم وجدير بالبحث والدراسة، فمن المؤسف اليوم، أن نلاحظ بعيون متفحصة متى عدنا إلى الواقع، حجم التنازع والفرقة والتشنجات في هذا العالم لفرض أشكال محددة ونمطية في الدين والفكر والثقافة، ومدى انحسار التوجهات الداعية إلى حماية التنوع والترويج للتعددية في كل أوجه الحياة. ومثال هذا واضح في حياتنا العامة حيث تكثر الخطابات الإقصائية والإلغائية، وترتفع لغة التكفير ولغة الكراهية الرافضة لكل ما هو مختلف عن ذاتها، فتغيب لغة الحوار الهادئ وتضيق مساحة تقبل الآخر.

وهذا الأمر يدعو المختصين والغيورين من أتباع الأديان إلى الوعي بمسؤوليتهم في هذا الصدد، والعمل على بث ثقافة الاعتراف المتبادل بدَل لغة الإقصاء والتعصب، وخلق الجو الهادئ للتعايش مع احترام الرأي والرأي الآخر لبناء مجتمع إنساني متكامل، لا تحكمه الحدود الجغرافية بقدر ما تحكمه القيم الإنسانية السامية التي أكدتها النصوص الدينية.

ولا يتسنى هذا بالمجهود الفردي بل يتحتم من أجل إنجاح هذه المشاريع الإنسانية تحفيز الهمم والجهود الجماعية، إذ نحتاج اليوم في عصرنا الراهن إلى التوعية بأهمية العمل الجماعي الجاد الذي تتكاثف فيه الجهود من أجل بناء مستقبل أفضل للإنسانية وتقديم صورة جيدة عن الإسلام، على وجهه الصحيح الذي تسمو به الأخلاق وترتفع به الهمم، لتكون الكرامة الإنسانية هي مركزه ومحوره.

خصوصا عندما نتأمل هذا العالم الذي أصبح قرية صغيرة تنتقل فيها المعلومة بسرعة الضوء، فتكون لها فاعليتها وتأثيرها مهما كانت مصداقيتها وكيفما كان مصدرها، ولهذا ما علينا إلا أن نكون من المستفيدين الأوائل من هذه الوسائل التي صارت في المتناول، ويعمل كل واحد منا في دائرة التأثير الخاصة به، للترويج للأفكار الإيجابية، ولا بد من رؤية الأمور من جانبها الإيجابي لا من جانبها السلبي منها فقط، ولا أن نركن إلى اليأس والإحباط، وكما يقول المثل:

لا تنظر إلى النصف الفارغ من الكأس ولكن يجب أن تنظر إلى النصف الممتلئ.

وليتحقق البناء العمراني القائم على قيم حضارية كالاستخلاف والمسؤولية والعمل والأمن والسلام والجمال وغيرها من القيم، لا بد من التمسك بالقيم العليا التي أسس لها الإسلام، والتي تكتسب مكانتها العالية بواسطة مضامينها المستمدة من القرآن الكريم، فـمصدر القيم الإسلامية هو الوحي، ولذلك فهي قيم ثابتة تصلح لكل إنسان بصرف النظر عن جنسه ومكانه وزمانه ونوعه.

ومن باب التذكير سنشير إلى مجموعة من هذه المضامين القيمية في القرآن الكريم، والتي تؤسس لبناء الإنسان أولا قبل بناء العمران، ولعل أهم ما يميز هذه القيم هو الربط بين القول والعمل والقيمة والسلوك، وتعد الأخلاق هي القاسم المشترك في أوجه جميع مناحي الحياة سواء الاجتماعية أو التربوية أو غيرهما.

وعلى رأس ما يؤكد عليه القرآن الكريم من القيم الكبرى نجد قيمة الرحمة وقيمة العدل وقيمة الكرامة، فيقول الحق سبحانه في حق الوالدين:” وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًاالإسراء: 24، والرحمة هي الخلق الذي يعكس إنسانية الإنسان، فإذا انعدمت تحوّل إلى بشر يعتو في الأرض فسادا، أما العدل فهو القيمة التي تسمو فوق المساواة، ليأخذ كل ذي حق حقه، ومن الآيات التي تؤكد هذه القيمة قوله تعالى:” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ” النساء: 135، أما قيمة الكرامة فبها يكون تهذيب النفوس وتنشئة الإنسان تربويًّا وعقليًّا وأخلاقيًّا واحترام إنسانية الإنسان، يقول تعالى:”وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا” الإسراء: 70.

وهنا نود التأكيد على أهمية ترسيخ القيم لخلق مناخ إيجابي في المجتمع مبني على أساس التآلف والمحبة والتعاون والتضامن، لتعزيز روح التنافس الخيِّر بين أفراده وخلق جسور التقارب.

فمهما تكون مسافة الاختلاف كبيرة بين أفراد المجتمع ستختفي بهذه الأمور التي هي خطوات النجاح المستمدة من المنظومة القرآنية.

إذ من غير الطبيعي أن نكون ضد الاختلاف، فالاختلاف سنة كونية وإرادة إلهية في الطبيعة والبشر، وهذه الظاهرة صحية في الأماكن والأزمنة، من شأنها أن تقدم الكثير للمجتمع الإنساني، بجميع مكوناته دينيا وثقافيا وفكريا، وهي أيضا مفتاح باب الحوار مع الآخر المخالف وبوابة لتبادل الخبرات والثقافات، حيث تدفع إلى استيعاب الثراء في النظر والعمل وإعطاء الآخر الحقَّ في التواجد والعطاء، وتفسح المجال أمام جميع مكونات المجتمع للتعايش، حيث قيمُ التسامح والسبق للخير، وقوةُ أي مجتمع تكمن فيما ينطوي عليه أفراده من تسامح وسماحة واعتراف متبادل مبني على الاحترام.

والاختلاف ليس أمرا قدحيا بل هو سنة سنها الله عز وجل وأكدها في كتابه المبين، فقال سبحانه وتعالى:”وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ” سورة الروم: 22، وهذا النوع من الاختلاف الذي أشارت إليه الآية الكريمة بقدر ما يؤكد على قدرة الله تعالى في الإبداع في صنعه، هو أيضا دعوة للالتفات إلى ظاهرة تنوع الخلق وتنوع ألسنته، وفي هذه الآية الثانية تأكيد على أن الاختلاف الاجتماعي والثقافي متعدد بتعدد أشكال التفاعل البشري، قال تعالى:”وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ” سورة هود: 118.

ومادة “اختلف” جاء ذكرها في القرآن في مواضع كثيرة، مما يدل على مساحة واسعة لمفهوم الاختلاف في النص المؤسس، وهذا ما تعكسه التجربة الإسلامية بغنى الأمثلة المسجلة في هذا الجانب، وفي هذا الصدد سنعرض نماذج من التجربة الإسلامية في تدبير الاختلاف وبث روح التقارب بين الأديان لترسيخ القيم العليا، ومن هذه النصوص ما سجلته صحيفة المدينة من سيرة النبي الكريمr مع المخالفين من يهود ونصارى، ففي معاهدتهr مع اليهود دلالات على مسالمة غير المسلمين وترسيخ لفكرة التعايش السلمي والتقارب الآمن بين المسلمين وغيرهم، يقول فيها عليه الصلاة والسلام:

«وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ ( لا يهلك) إلا نفسه وأهل بيته، وأن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف.. (يهود بني ساعدة، بني جشم، بني الأوس، بني ثعلبة، يهود الأوس) وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم.»

وفي معاهدته r مع النصارى، يقول عليه الصلاة والسلام:

“بسم الله الرحمن الرحيم من محمد النبي للأسقف أبي الحارث وأساقفة نجران وكهنتهم ورهبنتهم وكل ما تحت أيديهم من قليل وكثير جوار الله ورسوله، لا يغير أسقف عن أسقفيته ولا راهب من رهبانيته ولا كاهن من كهانته ولا يغير حق من حقوقهم ولا سلطانهم ولا ما كانوا عليه من ذلك جوار الله ورسوله أبدا ما أصلحوا ونصحوا عليهم غير مبتلين بظلم ولا ظالمين”.

واليوم نرى عكس هذا الأمر في واقعنا في العالم الإسلامي حيث المعابد ودور العبادة تهدم ورموز الحضارات تدمر باسم الدين.

وقد سار الصحابة الكرام رضوان الله عليهم على نفس النهج، فنجد وصية أبي بكر ليزيد بن معاوية وهو يودعُه أميرا على الجيش الذاهب إلى الشام، تنص على عدم إيذاء الناس أو الاعتداء على مقدساتهم، واحترام الطبيعة وتنهى عن التخريب والتدمير:

“إنك ستجد قوما زعموا أنهم حبَّسوا أنفسهم لله، فذرهم وما زعموا أنهم حبَّسوا أنفسَهم له، وإني موصيك بعشرٍ: لا تقتلنَّ امرأةً، ولا صبيا، ولا كبيرا هرِما، ولا تقطعنّ شجرا مثمرا، ولا تخرِبنَّ عامرا، ولا تعقرنّ شاةً ولا بعيرا إلا لمأكلةٍ، ولا تحرقن نخلا، ولا تفرقنه ولا تغلُل، ولا تَجبُن”

وفي معاهدة عمر بن الخطاب لأهل إليا دلالات ومعاني راقية في احترام الآخر وترسيخ الأمان الذي تفتقده الكثير من الشعوب في وقتنا الحاضر :”هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيليا من الأمان. أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم.. أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من حيزها ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم…”

وفي مرحلة الدولة العباسية كان لأهل الأديان المخالفة حظوة عند السلاطين، ودليل ذك ما وصلوا إليه من العلم والمكانة بفضل الانفتاح والتسامح السائد في ذلك العصر، حتى كان منهم أطباء وحكماء وشعراء في البلاط، يقول القاضي عبد الجبار الهمداني المعتزلي في كتابه دلائل النبوة: “ومن الكتب التي وضعها الملحدة وطبقات الزنادقة، كالحداد، وأبي عيسى الوراق، وابن الروندي، والحصري، وآمالهم في الطعن في الربوبية وشتم الأنبياء صلوات الله عليهم وتكذيبهم فإنهم وضعوها في أيام بني العباس، وفي وسط الإسلام وسلطانه وملوكه أكثر مما كانوا إذ ذاك وأشد ما كانوا ولهم القهر والغلبة والعز.”    

ومن تجليات الاختلاف والاعتراف بالآخر وقبوله في التجربة الإسلامية[1] وجود المجالس التناظرية التي كانت تعقد بين المسلمين وغيرهم، في حضرة الخلفاء، حيث يدافع كل على معتقده معتمدين على الأدلة والأقيسة العقلية، ومن المجالس التي حضرها الخلفاء، ما نقله ابن النديم في الفهرست من صور تسامح خلفاء المسلمين مع المخالفين في قوله: “ومن رؤسائهم في المذهب في الدولة العباسية أبو يحيى الرئيس أبو علي سعيد أبو علي رجا يزدانبخت، وهو الذي أحضره المأمون من الري بعد أن أمّنه، فقطعه المتكلمون. فقال له المأمون: أسلم يا يزدانبخت فلولا ما أعطيناك إياه من الأمان لكان لنا ولك شأن، فقال له يزدانبخت: نصيحتك يا أمير المؤمنين مسموعة، وقولك مقبول، ولكنك ممن لا يجبر الناس على ترك مذاهبهم، فقال المأمون: أجل. وكان أنزله بناحية المَحْرم ووكل به حفظة خوفا عليه من الغوغاء وكان فصيحا لسنا[2].

وأختم بمثال يوضح تجربة التعايش والتقارب في التجربة الإسلامية بين المسلمين وغيرهم من أهل الأديان، وهو سماح الإسلام للرجل المسلم الزواج بالمرأة الكتابية، وهو مظهر قوي من مظاهر التقارب والسماحة، وقد بيَّن فضيلة العلامة محمد الغزالي ذلك في قوله:”وحسبك أن الله أهدر اختلاف الدين فى اختيار الزوجة ويسَّر للمسلمين واليهود والنصارى أن تجمعهم مائدة وفراش واحد: “وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان”، والدين الذى يسمح باختلاف الدين فى بيت صغير تتلاقى فيه الوجوه، وتتقارب الأبدان وتشتبك المشاعر، ولا يضيق ألبتة باختلاف الدين فى وطن كبير تتسع فيه المصالح، وتتعدد الحاجات والكفايات، ويستحب فيه التعاون على بلوغ الغايات.

إن الإسلام لا يبسط يده بالأذى إلى أي من خلق الله، وقد بعث نبيه رحمة للعالمين، وبركة للناس أجمعين[3].

هذه بعض الأمثلة باختصار مما نحن اليوم أحوج إليها لفك عقدة الوحدة والعزلة وتجاوز الفهم المغلوط للاختلاف وخلق جسور التقارب والتواصل حتى تتاح فرصة الاستفادة من الطاقات والقدرات والأفكار لبناء حضارة مشتركة تتجاوز خطاب الكراهية والعنف، كما ينبغي أن يقوم القادة الدينيون بدورهم في التصدي للتوترات الناتجة عن الفهم المغلوط للدين، من خلال تأطير أتباعهم وجمهورهم ومجتمعاتهم بقيم التسامح والسلام.

وأُذكِّر هنا بتجربة مؤسسة الرابطة المحمدية للعلماء التي أصدرت مؤخرا ميثاق المنتدى الأول للعلماء الوسطاء حول الوقاية من التطرف العنيف بهدف تزويد العلماء بالكفايات والمهارات التي تسهم مع مختلف الفاعلين في الحد والوقاية من السلوكيات الخطرة وعلى رأسها التطرف العنيف.

وفي الأخير لا بد من التذكير بقوله صلى الله عليه وسلم عن ماهية المسلم:” المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه”[4].


[1] يمكن الرجوع إلى مقالة مفصلة في هذا الموضوع لفضيلة الدكتور يوسف الكلام بعنوان: من تجليات الاختلاف في التجربة الإسلامية: مجالس المناظرات الدينية” ضمن الكتاب الجماعي: الاختلاف في المجال الإسلامي تأصيلا وتدبيرا، الصادر عن مؤسسة دار الحديث الحسنية، 2011.

[2]  ابن النديم، الفهرست، دار المعرفة بيروت، 1398-1978، ص: 473.

[3] “الإسلام والاستبداد السياسي” محمد الغزالى، دار الكتاب العربي، الصفحة: 104-105،

[4]متفق عليه

By Zouhour Mechergui

Journaliste