الخميس. مارس 28th, 2024

محمّد سخّانة، متفقّد عام للتربية

تستند المرجعيّات التربويّة  والديداكتيكيّة لتدريس المسألة الدينية إلى مبدأ مركزي يعتبر المتعلّم محور العمليّة التربويّة، وهو مقصد يستوجب تحقيقُه التخلي عن الطرائق والتمشّيات القائمة على التلقين والتراكم المعرفي والسير في اتّجاه يدفع إلى «تكوين عقول مفكّرة بدل حشو الأدمغة بالمعارف»[1]، وتخيّر مقاربات تربويّة ومنهجيّة  تمكّن من تطوير قدرات المتعلّمين الفكريّة وتنمية ملكاتهم الشخصيّة وتساعدهم على الترشّد الذاتي واكتساب كفايات التحليل والنقد والحوار وبناء المواقف وتقبّل الرأي المخالف، وهو ما ينمّي فيهم روح المبادرة والمسؤوليّة ويؤهّلهم للانخراط الإيجابي في محيطهم الاجتماعي.

فلم يعد مقبولا اليومَ، في ظلّ التفجّر المعرفي الذي يشهده عالمنا المعاصر ووفرة مصادر المعرفة وتنوّعها،  أن تكتفيَ المدرسةُ بدورها التقليدي المتمثّل في تلقينِ التلاميذ كمّا هائلا من المعارف وفق نسق قائم على ثنائيّة الحفظ والاسترجاع. بل بات المطلوب منها أن تعيد النظر في الأدوار الموكولة إليها، والتفكير في الوسائل التعليميّة والمقاربات التربويّة الكفيلة بالارتقاء بأداء المتعلّمين وتطوير مؤهّلات الفعل والإبداع فيهم تفكيرا علميّا يحتكم إلى أحدث النظريّات  والمرجعيّات التربويّة.

وسنتناول في ما يلي عرض الأسس النظريّة والمرجعيّات التربويّة والديداكتيكيّّة التي نستند إليها في تقويم مناهج العلوم الشرعيّة ومقرّراتها، كما سنعمل على تحليل أهمّ المفاهيم والمصطلحات المستخدمة في هذين المجالين تحليلا يستهدف رفع الالتباس والحدّ من اختلاف التأويلات.

  1. المرجعيّات التربويّة

لكلّ منهج أو مقرّر مدرسي مرجعيّات تربويّة تفسّر مقاصده وتوجّهاته. وحتّى في الحالات التي لا تعلِنُ فيها وثائقُ المنهج عن هذه المرجعيّات بصورة صريحة وواضحة، فإنّ ملامح المقرّر العامّة وطبيعة مضامينه والطريقة المعتمدة في بنائه لا بدّ أن تعكس هذه التوجّهات وتُبين عن هويّتها النظريّة المستندة إلى مبادئ إحدى المدارس التربويّة.

والمدارس التربويّة عديدة ومتنوّعة أفرزها التطوّر الكبير الذي شهدته علوم التربية. هذه العلوم تسعى وفق منطلقاتها إلى تقديم تفسيرات موضوعيّة لسيرورة اكتساب المعارف والخبرات وفهم طبيعة الفعل التعلّمي والآليّات المتدخّلة فيه من خلال تحليل التفاعلات الذهنيّة والنفسيّة التي تقوم عليها عملية التعلّم. ومن أشهر هذه المدارس وأكثرها حضورا في المشهد التعليمي-التعلّمي: المدرسة السلوكيّة[2] والمدرسة البنائيّة[3].

 من السلوكيّة إلى البنائيّة

شهد حقل التربية والتعليم في العقود الأخيرة، وخاصّة في العقد الأوّل من القرن الحالي، تحوّلا جذريّا في النّظرة إلى التعلّم والتعليم مكّن الخبراء والباحثين من الكشف عن مظاهر القصور في  المدرسة السلوكيّة التي لم تتمكّن في نظر أغلب الباحثين من تأهيل الناشئة للانخراط الإيجابي في محيطهم الاجتماعي بالقدر المطلوب نتيجة إغراقها في نزعة تقنيّة وسلوكيّة تجزيئيّة تقوم على تحديد قائمة من الأهداف الإجرائيّة وإخضاع المتعلّمين لآليّات تعليم قائمة على التنميط وتفتيت المعارف والمهارات وتضييق روح المبادرة وحرّيّة التفكير والإبداع لديهم.

لقد تراجعت التوجّهات التربويّة التقليديّة القائمة على حشو الأدمغة بالمعارف، واستُبدلت بأخرى قوامها معالجة المضامين المعرفيّة في نطاق مشكلات حقيقيّة أو افتراضيّة محكَمة التصميم يتطلّب حلُّها تعبئةَ عدد من الموارد والمكتسبات المعرفيّة والمهاريّة والقيميّة، وتوظيفها بصورة إدماجية. وهذه التوجّهات الجديدة هي ما يميّز المدرسة البنائيّة.

لذلك ترى البنائيّة أنّ التعلّم القائم على حلّ المشكلات يساعد المتعلّمين على بناء معنى لما يتعلّمونه وينمّي الثقة لديهم، لأنهم يعوّلون على أنفسهم في اكتساب المعارف والمهارات وبناء المواقف والاتجاهات ولا ينتظرون حلولا جاهزة للمشاكل المطروحة عليهم؛ وبفضل هذا التمشّي يدركون أنّ التعلّم صناعة للمعنى وليس مجرّد حفظ وترديد لِكَمٍّ من المعلومات.

ويمكن حوصلة أهمّ المبادئ التي يقوم عليها التعلّم البنائي في النقاط التالية:

  • التعلّم فعل ذاتي يُنجزه المتعلّم بنفسه ولا يمكن أن ينوبه فيه أحد.
  • لا يتحقّق التعلّم بعمليّة قسريّة تقوم على الإلزام و الإكراه؛ إذ لا بدّ أوّلا من إضفاء المعنى والدلالة على التعلّمات حتّى تتولّد لدى الطالب الرغبة والدافعيّة، فيجد في التعلّم ما يعبّر عن انتظاراته ويلبّي حاجاته، فيُقبل عليه ويسترسل فيه.
  • لا يحصل التعلّم بواسطة الحفظ والتأمّل النظري بالدرجة الأولى، بل يحصل أساسا بمعالجة المواقف والمشكلات والتفاعل مع الأنشطة وتحليل المحتويات.
  • يكون التعلّم أعمق وأرسخ كلّما أتيحت للمتعلّم أنشطة تأمّليّة متبصّرة تمكّنه من تقويم أدائه واستقراء طرائقه واكتشاف أخطائه. وبناء على ذلك يكون من الضروري أن تحرص المناهج والمقرّرات على توفير موارد وأنشطة تشتغل على هذا الجانب التأمّلي.
  • لا يتحقّق التعلّم بالنجاعة المطلوبة إلاّ إذا تمّت مراعاة المكتسبات القبليّة للمتعلّمين وأُنشِئت روابط مباشرة معها.
  • تنمو العمليّات العقليّة العليا عبر الصراع العرفاني الاجتماعي القائم على العمل التشاركي الذي يسهم في تعديل المواقف ومسارات التعلّم وتنمية الكفايات التواصليّة.

المقاربة بالكفايات

أضحى التعلّم  من وجهة نظر بنائيّة  سلسلة من التفاعلات الاستكشافيّة يتولّى المتعلّم قيادتها بنفسه ضمن سياق تعلّمي تفاعلي شمولي دالّ بالنسبة إليه وقائم على استثمار الموارد وتحليلها من أجل توظيفها في وضعيّات معقّدة تستدعي تعبئة عدد من المكتسبات والخبرات بصورة إدماجيّة، بحيث يصبح المتعلّم قادرا على معالجة مواقف ومشكلات مختلفة بفضل اكتسابه خبرة معقّدة ومندمجة تُعرف بالكفاية (Competence). يعرّف التربويّون الكفاية بكونها «خبرة داخليّة معقّدة تتمثّل في القدرة على توظيف مجموعة من القيم والاتّجاهات والمعارف والمهارات توظيفا اندماجيّا مناسبا وفعّالا لحلّ مشكلات جديدة ومواقف عمليّة مركّبة ودالّة»[4].

تمثّل المقاربة بالكفايات ممارسة تربويّة إجرائيّة تشكّلت ملامحها وتطبيقاتها بفضل المجلوبات النظريّة للمدارس التربويّة الحديثة، كالبنائيّة والبنائيّة الاجتماعيّة. وميزتها الأساسيّة أنّها تهتمّ اهتماما خاصّا بطبيعة المعرفة ودلالتها بالنسبة إلى المتعلّم وبدوره في بنائها، وتُعنى عناية كبرى بالمسارات الفكريّة والوجدانيّة والاجتماعيّة الملازمة لاكتساب القيم والمعارف والمهارات الجديدة. ذلك أنّ التعلّم في منطق الكفايات ليس مسارا تراكميّا يحصل بإضافات معرفيّة متتالية يضيفها المعلّم إلى المتعلّم، وإنّما هو هيكلة متجدّدة للمكتسبات السابقة تسمح بتعبئتها وتوظيفها في معالجة وضعيّات ومواقف من واقع الحياة.

ولمّا كانت غائيّة التعلّم هي مؤازرة الطالب ومساعدته في بناء الكفايات الخاصّة به، صار متأكّدا تنزيل المعارف منزلة الموارد التي يُتوسّل بها إلى هذه الكفايات. لذلك يتوجّب التفكير عند بناء المناهج والمقرّرات المدرسيّة في الغاية أو المنفعة المرتجاة من ورائها؛ إذ تكتسب المعارف دلالتها وجوبا من استعمالها عند الحاجة استعمالا ناجعا، ومن عدم الفصل بين لحظة اكتسابها ولحظة تطبيقها.

بيداغوجيا حلّ المشكلات

تُعتبر «بيداغوجيا حلّ المشكلات» من أنجع الأساليب والممارسات التعليميّة لأنّها مبنيّة على فلسفة تسعى إلى مساعدة الفرد في تحقيق أعلى درجات التكيّف مع محيطه، وتنظر إلى التعلّم باعتباره عمليّة ذاتيّة تقوم على مجهود خاصّ يبذله المتعلّم من أجل حلّ مشكلة أو دراسة حالة أو معالجة وضعيّة، مخالِفةً بذلك الاتّجاهات التربويّة السائدة التي تقلّل من دور المتعلّم وتعتبره مستهدَفا بالمعارف لا مسهما في بنائها.

تنطلق «بيداغوجيا حلّ المشكلات» من مبدإ مفاده : «أنَّ الحياة عبارة عن مجموعة المشكلات». ولكي يحقّق الفرد تكيّفه مع محيطه الاجتماعي بنجاح، ينبغي أن:

– يكون قادرا على معالجة تلك المشكلات والتفكير فيها وإيجاد الحلول المناسبة لها.

– يعتمد  استراتيجيّة عمل تقوم على اتّباع خطوات متدرّجة تمثّل سيرورة إنتاج المعرفة في موضوع معيّن.

– يمتلك القدرات والمهارات التي يحتاجها في التكيّف مع الوضعيّات التي يمكن أن يواجهها في حياته اليومية.

تؤثّر «بيداغوجيا حلّ المشكلات» تأثيرا ظاهرا في هندسة الكتب المدرسيّة، إذ تدفع إلى اعتماد تمشٍّ متدرّج يبني الدروس والتعلّمات وفق المراحل الأربع التالية:

  • مرحلة استكشافيّة تبدأ بعرض مشكل أو وضعيّة أو دراسة حالة.
  • مرحلة تعلّم منهجي تحصل خلالها معالجة المضامين المعرفيّة واكتساب المهارات ذات العلاقة بالمشكل المطروح وبموضوع التعلّم.
  • مرحلة تعلّم إدماجي يتمّ خلالها استغلال تلك المكتسبات في بناء الحلول المناسبة للمشكل المطروح أو الوضعيّة المقترحة.
  • مرحلة تقويم الحلول التي تمّ التوصّل إليها في المرحلة السابقة.
  1. المرجعيّات الديداكتيكيّة

التعلّميّة (الديداكتيك) خطّة استراتيجيّة تعليميّة تهتمّ بالتفاعلات التي تجري بين أقطاب المثلّث التعلُّمي التعليمي (المعلّم – المتعلّم – المعرفة) في إطار مجال مفاهيمي معيّن  (أي مادّة معرفيّة معيّنة). تهتمّ التعلّميّة بتسهيل عمليّات التعلّم وذلك بـ:

  • تصنيف المادّة التعليميّة تصنيفا يُلائم حاجات الطالب.
  • تحديد الطريقة المناسبة لتعلّمه.
  • استخدام الأدوات والوسائل المساعدة على هذا التعلّم.

تَستخدم تعلّميةُ الموادّ جهازا مفاهيميّا مميّزا تستعمله للتعبير عن القضايا التي انفردت بطرحها دون غيرها من العلوم التربويّة الأخرى. من المفاهيم الأساسيّة المكوّنة لهذا الجهاز: المثلّث التعليمي، النقل التعلّمي، العقد التعليمي، المكتسبات القبلية… غير أنّنا سنقف منها بالشرح على مفهوم واحد لأهمّيّته القصوى ولحاجتنا الأكيدة إليه في عملنا التقويمي، هو مفهوم «النقل التعلّمي».

يعبّر مفهوم «النقل التعلّمي» عن التحوّلات التي تطرأ على المعرفة العلميّة حتّى تصبح صالحة للتعلّم، ويتحقّق ذلك بتدرّجها عبر المراحل الثلاث التالية:

أ- مرحلة المعرفة العلميّة، وهي المعرفة التي يتداولها المختصّون، ولا يمكن أن تُمرَّر إلى المتعلّمين على حالها تلك لأنّها تتّسم عادة بالشمول والتعقيد والتجريد.

ب- مرحلة المعرفة الواجب تعلّمها، وهي التي قرّرتها المناهج والمقرّرات الدراسيّة، وتتميّز بالإجمال والاختصار والتحديد.

ج- مرحلة المعرفة المدرسيّة، وتتمثّل في ما يتمّ تداوله فعلا في الفصل؛ وتختصّ هذه المرحلة عن سابقتيها بمميزات عديدة.

يمثّل علم نفس النموّ[5] أسًّا مرجعيّا مركزيّا في تقويم المناهج التعليميّة وتطويرها لأنّه يمكّننا من تمثّل الخصائص النفسيّة والذهنيّة والعاطفيّة للمتعلّم في كلّ مرحلة من مراحل دراسته، ويساعدنا على حسن اختيار المضامين المعرفيّة واقتراح الأنشطة والتمشّيات التعليميّة–التعلّميّة الموافقة لاهتماماته ومشاغله.

  1. الخصائص السيكولوجيّة للمتعلّمين وانعكاساتها التربويّة

تعرض الجداول الأربعة التالية ملخّصا لأهمّ خصائص المتعلمّين في المراحل الدراسيّة الثلاث وما تقتضيه من تطبيقات تربويّة مناسبة:


ملاحظة

تجدر الإشارة إلى أنّ هذه المراحل تقريبيّة، وأنّها تختلف من طفل إلى آخر طبقا للعوامل التكوينيّة والبيئيّة الثقافيّة التي تُحدِث بين الأطفال فروقا حتّى وإن كانوا في سنّ واحدة. ومع ذلك يُعتبر ما حدّده علماء النفس التربوي من خصائص لهذه المراحل العمريّة رافدا مهمّا من روافد تحليل الفعل التعليمي التعلّمي، وسندا قويّا يُرجع إليه في مجال بناء مختلف الوثائق التعليميّة ورصد المساعدات والوسائل التوضيحيّة. وهذا ما جعلنا نستأنس به في تقويمنا لوثائق المنهج ومختلف كتب المراحل التعليميّة الثلاث.

الملامح المميّزة لأطفال اليوم

إضافة إلى الخصائص الطبيعيّة المعبَّر عنها في الجداول السابقة، يلاحَظ أنّ لأطفال اليوم خصائص أخرى ينبغي أخذها في الحسبان، اكتسبوها نتيجة التغيّرات العميقة التي شهدتها الحياة المعاصرة في شتّى المجالات، وطالت بصفة خاصّة العلاقات الأسريّة والاجتماعيّة وعلاقات الفرد بالمعرفة وبالمحيط، ممّا أكسبهم ملامح جديدة تميّزهم عن أقرانهم في العشريّة الماضية. فقد أصبحوا:

  • أكثر وعيا بما يشهده العالم من تعقيد.
  • أقلّ قدرة على فهم الدلالات والأبعاد العميقة للظواهر الإنسانيّة، وأقلّ ثقة بالحقائق المطلقة والأحكام المسبقة، وأضعف وعيا بالزمن والتاريخ.
  • أقلّ تفهّما لمعنى المجموعة في بعدها الاجتماعي والمدني، وأضعف إحساسا بالانتماء، وأقلّ استعدادا لبناء علاقات اجتماعيّة ممتدّة ومستقرّة نتيجة ضعف الروابط الاجتماعيّة، مثل روابط القرابة والجيرة، واتّساع نطاق ظاهرة السكن المستأجر وغير المستقرّ؛ وهي معطيات تعمّق التمركز حول الذّات، وتطرح على المدرسة تحدّيات جديدة لاسيما في مجال التربية على العيش الجماعي.
  • أقلّ قدرة على التركيز ومعالجة المسائل المعقّدة نتيجة تعرّضهم لتدفّق عال من المعلومات المبعثرة المقتطعة من سياقها ونسقها وغير المرفقة بسند تفسيري.
  • أكثر تلقائيّة في التعبير عن طلباتهم وآرائهم، وأقلّ تحفّظا في إبداء ردود أفعالهم.
  • يعيشون تناقضات وتوتّرات مرجعيّة ذات تأثير أكيد في شخصيّتهم ومُثُلهم وسلوكهم نتيجة تضارب النماذج والمصادر الثقافيّة والقيميّة التي لم يعد بإمكانهم تلافي تأثيرها فيهم. هذا الواقع الجديد يحمّل المدرسة دورا أعظم من ذي قبل في مجال التنشئة القيميّة والروحيّة والمدنيّة وفي مجال القيم الكونيّة التي بات العالم يؤكّد باستمرار حاجته إليها.
  • يتّسمون بحركيّة فائقـة تتناقض مع ما في المدرسة التقليديّة من إجراءات قائمة على الانضباط. فالصورة الغالبة على هذه المدرسة أنّها «تحتجز» الطفل بين جدران الصفّ، وتسمّره على مقعد ثابت طيلة ساعات طويلة حتّى تتمكّن من تلقينه محتويات دراسيّة جامدة يُطلب منه استيعابها وحفظها وإرجاعها كما هي عند الاختبار. لقد أصبح من الضروري أن تعيد المدرسة التفكير في صيغ الحركة داخل الفضاءات الصفّيّة، وفي الدور الذي يمكن أن يؤدّيه النشاط الحركي ضمن باقة الأنشطة المطروحة على الطفل في إطار عمليّة التعلّم.

المرجعيّات الفنّيّة

شهد قطاع المناهج خلال العقدين الأخيرين تطوّرا كبيرا  في مستنداته النظريّة وأدواته التصميميّة والفنّيّة. فقد كان وضع المناهج الدراسيّة يجري في أكناف أعراف وممارسات تخضع لقدر زهيد من الانضباط والصرامة العلميّة، مكتفيا عادة بتحديد قائمة من العناوين والمفردات دون معالجة ديداكتيكيّة تعلّمية تذكر. أمّا اليوم فتقاس المناهج بمدى قدرتها على الانفتاح على المحيط ومواكبة المستجدّات واستيعاب الخبرات الآخذة في التّغيّر والتّعقّد.

صعوبات تعترض واضعي المناهج ومؤلّفي المقرّرات

تعترض واضعي المناهج والبرامج المدرسيّة جملة من الصعوبات والتحدّيات المعرفيّة والفنّيّة، أهمّها:

  • غزارة المادّة المعرفية وما تقتضيه من قدرة على اختيار المفاهيم والمفردات المناسبة وبنائها في شكل خرائط معرفية متسلسلة بأسلوب منهجي يساعد على تحقيق الكفايات المستهدفة بالنجاعة المطلوبة.
  • المشاكل المترتّبة على تطويع المعارف في بعدها النظري الأكاديمي لمقتضيات الاستخدام التعليمي وأغراضه، والمتمثّلة في حصول فارق نوعي بين الخبرة العالِمة والخبرة المطروحة للتّعلّم. ففي الوقت الذي تتميّز فيه الأولى بالموسوعيّة والانفتاح والوفاء للشروط العلميّة الصرفة، تتميّز الثانية بالانغلاق (بمعنى الاقتصار على محتويات مضبوطة) والانتقاء خدمة لأهداف مدرسيّة محدّدة.
  • مراعاة الخصوصيّات العقديّة والثقافيّة للأمّة وحاجيات المجتمع المتجدّدة والكافلة لتطوّره الحضاري ونموّه الاقتصادي وحضوره الفاعل في المشهد الكوني.
  • مراعاة النموّ النفسي والإدراكي للمتعلّمين في مختلف الأعمار، وإشباع حاجاتهم الأساسيّة في المجالات الذهنيّة والروحيّة والذوقيّة والحركيّة، وتنمية قدراتهم على بناء المستقبل والانخراط بفاعليّة في المجتمع وفي دورة الإنتاج.
  • التربية على القيم والاتجاهات وأنماط السلوك المعزّزة للثقة بالنفس والاستقلاليّة والابتكار والنقد والمبادرة والاعتدال والوسطيّة والموضوعيّة وغيرها من القيم التربويّة الإيجابيّة.
  • تنمية القدرة على حلّ المشكلات وبناء المواقف والاتّجاهات بما يُساعد على اتّخاذ القرارات السديدة.
  • تعزيز الإدارة الذاتيّة وضبط النّفس.
  • سلوك مناهج قائمة على تفريد التعليم ومراعاة فوارق التعلّم.
  • تقديم أجوبة جديدة ومحيّنة مواكبة للتطوّرات الاجتماعيّة والثقافيّة عن الأسئلة التربويّة الرئيسيّة: لماذا نعلّم؟ ماذا نعلّم؟ كيف نعلّم؟ كيف نقوّم؟

الخطوات العمليّة لهندسة  المناهج

إنّ أكثر المناهج نجاعة هي أقدرها على تقديم إجابات وجيهة ومتماسكة عن هذه الأسئلة و إيجاد الحلول المناسبة للصعوبات والتحدّيات سابقة الذكر. وتتميّز الخطّة المثلى في هندسة البرامج بالأخذ بالخطوات الستّ التالية:

  1. وضع تصوّر[6] استراتيجي إبستيمولوجي عامّ يضبط المبادئ الأساسيّة والغايات الكبرى التي ترمي المادّة المدرسيّة إلى تحقيقها، وهي مبادئ وغايات عامّة تستند إلى أسس مرجعيّة وخلفيّات نظريّة وقيميّة تعبّر عن ثقافة المجتمع واحتياجاته وتطلّعاته، وتترجم إرادته في الرقي الحضاري.
  2. ضبط الخيارات التربويّة (البيداغوجيّة) والمرجعيّات النظريّة التي سيتمّ الاستناد إليها في بناء المنهج، وشرح المقاربات والتمشّيات التعلّميّة “الديداكتيكيّة” التي سيتمّ العمل بها والاستفادة منها في بناء المقرّرات والكتب المدرسيّة والوسائل التعليميّة شرحا مفصّلا يُعنى بطريقة هيكلة التعلّمات ومراحل الدروس وتوزيع المحتويات وبناء أنشطة التعلّم والتقويم ووسائل التوضيح.
  3. ضبط قائمة في الكفايات[7] أو الأهداف العامّة التي تستهدفها المادّة الدراسيّة بالاستناد إلى المبادئ والغايات الكبرى التي تمّ وضعها في التصوّر العام. ويشترط في هذه الكفايات أن يكون عددها قليلا، وأن تكون مركّبة وكلّيّة وقادرة على استيعاب أكبر قدر ممكن من المفاهيم المعرفيّة والمقاصد التربويّة.
  4. تفريع تلك الكفايات العامّة والكلّيّة إلى مكوّنات أو كفايات فرعيّة تكون أكثر دقّة وتعبيرا عن الانتظارات المستهدفة.
  5. تفريع مكوّنات الكفايات أو الكفايات الفرعيّة إلى أهداف معرفيّة ومهاريّة ووجدانيّة.
  6. ضبط المحتويات الملائمة لتلك الأهداف.

 ملاحظات

  • يُعتمد هذا التدرّج في هندسة منهج كلّ صفّ على حدة.
  • تشترك جميع المراحل والصفوف التعليميّة في “التصوّر العام” و”كفايات المادّة” و”الخيارات والتمشّيات البيداغوجيّة”، ويكون التمييز في مستوى مكوّنات الكفايات والأهداف والمحتويات.
  • المدخل الأساسي لبناء المنهج هو كفايات المادّة، أمّا المحتويات فهي عابرة للكفايات خادمة للأهداف.
  • يمكن للكفاية الواحدة أن تتحقّق بواسطة محتويات متنوّعة.

[1]   الإصلاح التربوي الجديد، الخطّة التنفيذيّة لمدرسة الغد، منشورات وزارة التربية، تونس، ص25.

[2]  السلوكيّة (Behaviorism): مدرسة تربويّة نشأت في الولايات المتّحدة الأمريكيّة على يدي واتسن (Watson)، ومن أشهر روّادها بافلوف (Pavlov) وسكينر (Skinner). كان لها تأثيرها القوي في جميع النظم التعليميّة وفي جميع المختصّين والعاملين في الميدان التربوي. تنطلق المدرسة السلوكيّة من فرضيّة كون التعليم والتعلّم هما بالأساس استجابة لمؤثّرات خارجيّة، وكون سلوك الإنسان قابلا للتوجيه والتعديل بناء على قواعد وقوانين قائمة على ثنائيّة الإثارة والاستجابة. لذلك ألحّت على ضرورة تجزئة التعلّمات وتفكيك المعارف وتحويلها إلى أهداف إجرائيّة متدرّجة من البسيط إلى المركّب.

[3]  البنائيّة (Constructivism): من أشهر روّادها  المفكّر السويسري جان بياجيه، وهي تُعدّ من أهمّ النظريات التربويّة في العصر الحديث. تتميّز بإلحاحها على بناء الأنشطة التعليميّة-التعلّميّة في سياقات حقيقيّة، وعلى دور  الفرد في معالجة المعلومات وتفسير العالم من حوله بناء على رؤيته الشخصيّة. فالمعرفة من وجهة نظرها لا يتمّ استقبالها بواسطة مثيرات خارجيّة كما تقول المدرسة  السلوكيّة، بل تُبنى وفق قراءة تحليليّة تأمّلية ذاتيّة يحكمها صراع عرفاني (اختلال التوازن/توازن) يفضي إلى تطوّر الشامة المعرفية للفرد (أي بنيته الذهنية، وهي بنية تتداخل فيها معارف الفرد ومهاراته وقيمه وميوله بصورة اندماجيّة)  وإعادة بنائها وهيكلتها في اتّجاه تحقيق تكيّف ذهني ونفسي جديد.

أمّا البنائيّة الاجتماعيّة ((Social Constructivism فيتزعّمها لاف فيجوتسكي (Lev Vygotsky)، وتأخذ هذه المدرسة بما جاءت به المدرسة البنائيّة لكنّها تضيف إليها الإقرار بأن عمليّة التعلّم تقوم على التبادل والتعاون مع الغير، والتركيز على دور التفاعلات الاجتماعيّة التي تولّد صراعا عرفانيّا يسهم في  التطوير الإدراكي (Cognitive Development) للمتعلّمين من خلال تفاعلهم مع أقرانهم.

[4]  انظر مثلا: محمد الدريج ، “الكفايات في التعليم ، من أجل تأسيس علمي للمنهاج المندمج ”

[5]  علم نفس النمو هو العلم الذي يبحث في التغيرات النفسية والعقلية والعاطفية والسلوكية للفرد منذ نشأته ويصف الطريقة التي تتم بها هذه التغيرات والعوامل الطبيعية والبيئية التي تساهم في إحداثها.

[6]  التصوّر: خطوة أولى من خطوات الإعداد والتخطيط، تقوم على التفكير في نسق كلّي منسجم من المكوّنات والعناصر. وتعقب هذه الخطوةَ مجموعة من عمليّات التنظيم والتجريب والتقويم.

[7]  الكفاية هي القدرة على تعبئة مجموعة من الموارد المندمجة (معارف، مهارات، مواقف/اتجاهات )  واستخدامها بنجاعة قصد حلّ صنف من الوضعيّات. وبعبارة أكثر اختزالا، الكفايات هي: أهداف مندمجة   ×  محتوى  ×  وضعيّة.

By admin