الشيخ بن علال الإدريسي
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا إلى يوم الدّين.
أما بعد:
فإنِّي أتوجّه بالشُّكر إلى اللجنة المنظّمة لهذا المُلتقى ، وأسأل الله له مزيدًا من التوفيق والتميّز والإبداع.
وورقتي هي في محور: “دور رجل الدّين في نشر ثقافة الحوار والتّسامح والاعتراف بالآخر”، وعندي تعليق على هذا العنوان سأذكره في ختام الورقة إن سمح الوقت.
ولعلّي في هذه العجالة السريعة أسلّط الضوء على مسألة مهمّة، توضّح هذا المحور، وتزيل عنه الرّان.
فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم هو قدوة الأمّة جميعا علماء وغيرهم، ولو أن علماء الشريعة والدّعاة إلى الله أشاعوا في النّاس هذه التعليمات النبويّة، من خلال المنابر والإعلام بأنواعه،؛ لعمّت ثقافة الحوار والتّسامح والاعتراف بالآخر.
فسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من خلال سيرته وتوجيهاته الشريفة حثّنا على أمور مختلفة ومهمة.
من ذلك نهيُه صلى الله عليه وسلم عن التنطّع والتّشدّد، حيث قال صلى الله عليه وسلم: ((هَلَكَ المُتَنَطِّعُونَ )) كرّرها ثلاث مرات . رواه مسلم[1]. والمُتَنَطِّعُونَ هم: المُبَالِغُونَ فِي الأمُورِ[2].
وقال أيضا صلى الله عليه وسلم حاثًّا على ضرورة نشر ثقافة التيسير والتبشير وترك التنفير والتعسير على الناس:(( يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُواوَلاَ تُنَفِّرُوا )) أخرجه مسلم وغيره[3]، و« كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إِذا بَعثَ أَحدًا مِن أَصْحَابِهِ في بَعضِ أَمْرِهِ ، قال : بَشِّرُوا ولا تُنَفِّرُوا ، ويَسِّروا ولا تُعَسِّروا». أَخرجه أبو داود ([4]).
وعلّمنا صلى الله عليه وسلّم الطريقة المثلى لنشر معالم الحب، ألا وهي نشر معالم السِّلم والسلام، فقَال: (( والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لا تَدْخُلُوا الجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا ، وَلا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا ، أوَلاَ أدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ ؟ أفْشُوا السَّلامَ بينكم )) رواه مسلم[5].
كلّ هذه التوجيهات النفيسة تأصيل وتقعيد ونشر لمعالم ثقافة التسامح والمحبة والرحمة والوئام.
ونهى صلى الله عليه وسلم عن نشر الثقافات السّلبيّة في المجتمعات، بالنقد الهدّام، فقال: (( إِذَا قَالَ الرجُلُ : هَلَكَ النَّاسُ، فَهُوَ أهْلَكُهُمْ )) . رواه مسلم[6]. قال الإمام النووي: وذلكَ النْهيُ لِمنْ قَالَ ذَلِكَ عُجْباً بِنَفْسِهِ ، وتَصَاغُراً للنَّاسِ ، وارْتِفاعاً عَلَيْهِمْ ، فَهَذَا هُوَ الحَرامُ[7].
فكأنه يُرشد إلى ضرورة العمل الدؤوب في إصلاح النفس والمحيط، دون الاكتفاء بالتفرج والنقد والاستهزاء.
وفي التّعامل مع الجهل وبعض الأفعال الغير لائقة، نرى هذه القصّة، التي رويت عن أَبي هريرة رضي الله عنه ، حيث قَالَ : بَال أعْرَابيٌّ في المسجدِ، فَقَامَ النَّاسُ إِلَيْهِ لِيَقَعُوا فِيهِ – أي ليعاقبوه على فعلته-، فَقَالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (( دَعُوهُ وَأرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلاً مِنْ مَاءٍ ، أَوْ ذَنُوباً مِنْ مَاءٍ- أي دلو ممتلئة مالا- ، فَإنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَم تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ )) رواه البخاري[8]. وفي هذا الحديث يظهر سُوء صنيع الأعرابي، وفعلته القبيحة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وردّت فعل الصحابة تجاهه لأجل عقابه على فعلته هذه، وحُسن جواب النبي صلى الله عليه وسلم ولطفه ورفقه، وحُسن معاملته، بما يؤسّس لمنهج متكامل في التعامل مع تصرّفات وشذوذات الآخرين.
وفي التّعامل مع الآخر من مختلفي الدّيانات نجد توجيهًا آخر، فقد روى هِشام بن حكيمِ بن حِزَامٍ رضي الله عنهما : أنَّه مَرَّ بالشَّامِ عَلَى أُنَاسٍ مِنَ الأَنْبَاطِ – وهم الفلاحون الأعاجم- ، وَقَدْ أُقيِمُوا في الشَّمْسِ، وَصُبَّ عَلَى رُؤُوسِهِمُ الزَّيْتُ ! فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ قيل : يُعَذَّبُونَ في الخَرَاجِ – وفي رواية : حُبِسُوا في الجِزْيَةِ – فَقَالَ هِشَامٌ : أشهدُ لَسَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، يقولُ : (( إنَّ اللهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاس في الدُّنْيَا )) . فَدَخَلَ عَلَى الأمِيرِ ، فَحَدَّثَهُ ، فَأَمَرَ بِهِمْ فَخُلُّوا . رواه مسلم[9].
بل ورد في الحديث الشريف أيضًا: (( لا يؤمن أحدكم حتى يُحبّ للنّاس ما يُحبّه لنفسه))، بل قاله صلى الله عليه وسلّم: ((المسلمُ مَنْ سَلِم النّاسُ مِنْ لسانه ويده، والمؤمنُ مَن أَمِنَهُ النّاس على دمائهم وأموالهم)) أخرجه النّسائي وأحمد[10]، وليُتأمّل هنا لفظ (النّاس)، وهو لفظ عام يشمل المسلم وغير المسلم من أهل الذّمّة والعهد.
وحثّ صلى الله عليه وسلم على الرفق في الأمور كلها، فقال: «إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ» قَالَ وَكَانَ يَقُولُ: «خُذُوا بِالنَّاسِ الْمُيَسَّرَ وَلَا تَمَلُّوهُمْ» قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ رُفَقَاءُ رُحَمَاءُ([11]).
فالرفق يحتاجه الدّعاة والعلماء والمصلحون والقادة وعموم الناس في كل أحوالهم، وبه ينتشر التسامح، ويتمّ الحوار، بل به الخير كله، وبدونه يضيع كلّ خير، فقد روي عنه صلى الله عليه وسلّم قوله: «مَن أُعطِيَ حَظَّهُ مِن الرِّفق فقد أُعْطِيَ حَظَّهُ مِن الخَيرِ ، وَمنْ حُرِمَ حَظَّهُ مِن الرِّفق ، فقد حُرِم حَظَّهُ من الخير» أخرجه الترمذي([12]).
وعَنْ عروة بن الزبير قَالَ : بَلَغَنِي أَنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ: الرِّفْقُ رَأْسُ الْحِكْمَةِ([13]).
بل إنّه صلى الله عليه وسلم تعامل بكلّ لطف ومحبّة وعطف وتعايش مع الأعداء، فقد قالوا له: يا رسول الله إنّ دوسا – وهي إحدى القبائل – عصتْ وأبَتْ فادع الله عليها، فقال صلى الله عليه وسلّم: «اللهمّ اهد دوسًا وأْتِ بهم»([14]).
حتى في التعامل مع المرأة ، ثقافة تسامح وحوار واعتراف، فسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لم يقل: “أعدى عدوّك زوجتك” كما روي في الموضوعات، ولم يقل: “شاوروهنّ وخالفوهنّ”، بل قال: “أمركُنّ مما يهمني بعدي، ولن يصبر عليكن إلا الصابرون”. أخرجه الحاكم في المستدرك، “لا يَفْرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقًا رضي منها غيره”. أخرجه أحمد وغيره، “خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي، ما أكرم النساء إلا كريم، وما أهانهن إلا لئيم”. أخرجه ابن عساكر.
هذه إطلالة سريعة من منهجيّة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
في نشر ثقافة الحوار والتسامح والاعتراف بالآخر، وينبغي على الدّعاة والعلماء
والمتخصّصين في علوم الشريعة والدِّين العمل بهذه التوجيهات النبوية، وتطبيقها على
الوجه الأمثل، وإظهارها عمليًّا في التعاملات والإعلام والمنابر، ليعمّ الخير
المجتمع والإنسانيّة.
وفي ختام هذه الورقة أودّ توضيح أمر مهم: وهو أنه لا يوجد في ديننا الإسلامي رجال دين، عندنا فقط متخصِّصُون في علوم الشريعة، هذه العلوم التي تدور حول القرآن الكريم والسُّنّة النبوية، وتشمل علوم الآلة ، والتي يمكن بها فهم الوحيَيْن، وهي علوم اللغة ، النحو والصرف والبلاغة، وعلوم المنطق والمقولات وآداب البحث والمناظرة وغيرها، والعلوم المبنيّة عليها، كالفقه وأصوله، وأصول الحديث، وغير ذلك.
فالمتخصِّص في الشريعة هو العالم بهذه العلوم، ورأيه يمثِّله هو ولا يُفرض على الدِّين، لاسيما فيما يشمله الاجتهاد والآراء.
وغالب من نشأ من فساد في هذا الزّمن هو تجرّأُ من لم يدرس هذه العلوم ونشر آراءه الخاصّة وتقديمها على أساس أنها رأي الإله الواحد، وشريعة الخالق، وهذا محض افتراء وكذب، فلا يعدو اجتهاد الأئمة الكبار. وأقصد بالاجتهاد بذل الوسع في معرفة العلوم المذكورة آنفا مع غيرها من علوم الوقت، لأجل فهم المسائل المستجدّة وربطها بالواقع والاستجابة من التّجارب السابقة مع الانفتاح على الحاضر والمستقبل.
ولذلك قال الإمام أحمد زروق الفاسي في كتابه المهمّ جدًّا المسمى تأسيس القواعد والأصول: “المتكلِّمُ في فنٍّ من فنون العلم، إن لم يُلحق فَرْعَه بأصْله، ويحقِّق أصْلَهُ من فَرْعه، ويصِلْ معقولَهُ بمنقوله، وينْسُب منقولَه لمعادنه، ويَعْرض ما فهم منه على ما علم من استنباط أهْله، فسكوتُه عنه أوْلَى من كلامه فيه”.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما
كثيرا والحمد لله رب العالمين.
[1] أخرجه في صحيحه، في كتاب العلم، باب: هلك المتنطعون.
[2] رياض الصالحين ص482.
[3] أخرجه مسلم في صحيحه، في كتاب الجهاد والسير، باب في الأمر بالتيسير، وترك التنفير،
([4])جامع الأصول4/532.
[5] أخرجه في صحيحه، في كتاب الإيمان، بَابُ: بَيَانِ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ، وَأَنَّ مَحَبَّةَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْإِيمَانِ، وَأَنَّ إِفْشَاءَ السَّلَامِ سَبَبًا لِحُصُولِهَا.
[6] أخرجه في صحيحه، في كتاب البر والصلة والأدب، بَابُ النَّهْيِ عَنْ قَوْلِ هَلَكَ النَّاسُ.
[7] رياض الصالحين ص 446 .
[8] أخرجه في صحيحه، في كتاب الوضوء، باب: صب الماء على البول في المسجد.
[9] أخرجه في صحيحه، في كتاب البر والصلة والأدب، باب: الوعيد الشديد لمن عذب الناس بغير حق.
[10] أخرجه النسائي في سننه، في كتاب الإيمان وشرائعه، باب: صفة المؤمن، وأحمد في مسنده14/499، برقم8931.
([11]) شعب الإيمان13/412.
([12])جامع الأصول4/532.
([13]) مُصنف ابن أبي شيبة8/323، وكشف الخفاء ومزيل الإلباس1/162.
([14])صحيح البخاري (2937) ، وصحيح مسلم (2524) .